إن الثورة الحقيقة التي نحتاجها هي التي تفرز تغييراً في طبيعة المؤسسات، بحيث تستبعد الفاعل السياسي صاحب القوة العسكرية وأموال الدولة من ساحة الفعل السياسي، بحيث تصبح القنوات السياسية معبرة بصورة كافية عن المجتمع أيًّا كان ذلك المجتمع. ولو صحَّ أن كل ثورة تنتج مشروعية ثورية فإن مشروعية ثورتنا لابد لها من أن تصب جام غضبها على أقوى الفاعلين السياسيين منذ النظام السابق وهم المؤتمر الوطني والجيش والدعم السريع والأمن وحملة السلاح من النظام. لقد أنجزنا شوطًا بفك ارتباط المكونات السياسية أعلاه بالبشير كميزان لعلاقتها ببعضها البعض وواجب وقتنا وما يعبر بهذه الثورة لأن تكون خلافًا لما سبقها هو قدرتها على تقليم أظافر الفاعلين السياسيين – من العسكريين – وحدّ قدراتهم على العمل خارج منظومة العمل السياسي المرتضاة شعبيًّا.
عندما كان الشباب السوداني يستجير بالجيش داخل مباني القيادة من بطش الأمن كان في الحقيقية يعبُر من مرحلة النظام إلى ما بعد النظام، ومرحلة ما بعد النظام يجب أن يكون شعارها بناء الدولة، وبناء الدولة وإرساء قواعدها الأساسية عمل ثوري، يطلب إزاحة مجموعات لا تتفق وحلم الدولة من المشهد السياسي مهما كانت قوتها العسكرية وصلاتها الإقليمية، ويستغل ذلك العمل الثوري نخبة سياسية تنتزع أكبر مساحة من الفعل السياسي لصالح حلم الدولة في مقابل مصالح مؤسسات وطموحات أفراد تريد تفويت الفرصة التاريخية.
من حق الناجح أن يطمح إلى نجاح آخر، والثورة الناجحة تستمر حتى تضع أقدامها على أول سلم الترتيب السليم للإصلاح، وعليه فإن الشباب السوداني وإن احتمى بسور القيادة العامة بالأمس من بطش الأمن فذلك لا يلزمه اليوم أن يسلِّم بما يُجهِض مسيرة الإصلاح في الغد، وكدأب كثير من الثورات، فقد ضعُف العزم عن المطالبة بقطع منبع الفساد من جذوره والتفت الجماهير حول الهدف الأكثر مشهدية وهو سقوط البشير وشكرت للقوات النظامية فعلها ما كان يفترض بها أن تفعله وتناست كيف يعيد العسكر انتاج انفسهم وتدوير شخصياتهم، وعليه فلا حديث حتى فترة قريبة جداً عن دمج قوات الدعم السريع والجيش وتسليم استثمارات الجيش والدعم السريع والأمن والشرطة للمؤسسة الرسمية لإدارة هذه الأموال. إن كان الحلم هو دولة المؤسسات والقانون فتلك دولة لا تصرف فيها قوات الدولة العسكرية فيها على باقي أجهزة الدولة، إنه الفساد العريض والفشل الممنهج والدولة الموازية للمؤسسة الرسمية، وبالتالي فإن كل حكومة مدنية هي عبارة عن مسرح عرائس تتحرك في مساحة محدودة من القدرة على التغيير، وتظل السلطة الحقيقة في يد المؤسسات العسكرية المستقلَّة فعليًّا عن مؤسسة الدولة الرسمية. والسؤال المستفز هو: هل سيكون في مقدور البرلمان الجديد إصدار قانون يعيد كل استثمارات الدعم السريع أو الجيش إلى وزارة المالية؟ ليس له ذلك فذلك شأن سيادي أو قل شأن عسكري ما ينبغي لمثل هؤلاء المرتزقة السياسيين – كما يراهم العسكر – أن يمسُّوه وما يستطيعون. وأي محاولة في هذا الاتجاه هي نذير انقلاب عسكري أكثر شموليَّة.
في ظل هذا الوضع المعقَّد يكون كل الفعل السياسي من المدنيين عبثيًّا إن لم يضغط في اتجاه إعادة الفاعلية والسلطة الحقيقة للمؤسسة الرسمية لخلق جدوى وطنية من العمل السياسي، و الجدوى الوطنية تختلف عن الجدوى الحزبية أو الأيدلوجية فقد يكون من المجدي حزبيًّا أن يصل الحزب إلى السلطة لتعزيز موقعه السياسي، ولكن إن لم يكن له القدرة على إدارة دفة الدولة في اتجاه التنمية والشفافية وتوفير الخدمات الأساسية بصورة مستدامة فسيكون العمل السياسي عبارة عن ديكور مكلِّف يصرف على الشكل الخارجي لحقيقة الفعل السياسي. ومن الواضح أن هذه المطالبات ترفع السقف بعيداً عن متناول المفاوضة السياسية ولكن تجسير تلك المطالبات في شكل شعارات وإكسابها الزخم العاطفي والحشد حولها هو ما يجعل القوى السياسية قادرة على التقدم في هذا الاتجاه. وهو ما يمكن أن يلهم المطالبات الشعبية اللاحقة ويصحح تصورها عن سبب الفشل السياسي سابقًا ولاحقًا، وذلك ينشده من كان يؤمن منا أن الثورة بداية طريق الإصلاح وليست نهايته.
لقد عقد النظام البائد المشهد بتمليك مؤسسات عسكرية إمكانيات مادية ضخمة ضمن صفقات شراء الولاء التي اتقنها البشير، والتي كانت أيضًا سبب الفساد العريض الذي غطى كل مؤسسات الدولة بالترضيات والتجاوزات. يقتضي كل ذلك إرادة سياسية واعية بطبيعة التحدي ترجئ معاركها السياسية وتنافسها الآيدلوجي لحين إخلاء الحلبة من المنافسين غير السياسيين كما يقتضي إيماناً منها برأي شعبها بعيدًا عن الوصاية الأيدلوجية عليه، وبالتالي الترفع عن تمرير الأيدلوجيات من خلال العسكر. وإن تعجب فعجب ما يفعله الإسلاميون من الاصطفاف مع العسكر في مواجهة قوى الحرية والتغيير أملًا في استبقاء الهوية الإسلامية للبلاد، والرشد السياسي والنظر في مصائر حركات الإسلام السياسي كان جديرا بأن يدفع الإسلاميين للمطالبة بخروج المؤسسة العسكرية من جملة الفعل السياسي والاقتصاد والراهن على المكون الديني في المجتمع ليكون رصيده في حرب الهويَّات التي يفصل فيها الاستحقاق الانتخابي. لقد ذاق الإسلاميون ما يكفيهم من مرارات العسكر والتآمر العالمي عليهم، وآن لهم أن يعوا درس العمل المجتمعي كعمق استراتيجي لوجودهم السياسي ولوجود قيمهم في النص القانوني والدستوري في مؤسسة الدولة الرسمية من خلال الضغط السياسي والحراك المجتمعي الذي يجعل التحالف مع قيمهم والاستجابة لمطالبهم فرصة سياسية للتدافع الديمقراطي يطلبه كل ذي طمع في الإرادة الشعبية، بدلًا من تولي السلطة التنفيذية في ظل الوضع العالمي الحالي والذي لابد سيقودهم إما إلى أن يفرغوا من محتواهم الصلب أو أن يسقطوا قسرًا. والسعي نحو العسكر هو تمليك لأكبر مهدد لنزاهة اللعبة المشروعية الكافية لسحقك في القريب.
الرهان على المكون الديني في الجيش الذي تعاهدته الإنقاذ على مدى ٣٠ عاما هو رهان خاسر لما حدث ويحدث من اصطفاف الجيش مع مصالحه الإقليمية والتي تجد التبرير الوطني فلا يمكن للجيش أن يفصل مصلحته المؤسسية عن المصلحة الوطنية وبالتالي يميل مع مصلحته التي يتبناها محور إجهاض الإسلام السياسي وإجهاض العمل الدعوي له، وإذا أخذنا في الاعتبار القوى الإقليمية ومقدرتها على مساومة الجيش والدولة كلها بالتمويل والدعم الدولي نعرف أن كل إرادة تغيير ترتهن إلى مؤسسة لا تعتبر الإرادة الشعبية بالقدر الكافي أو تملك القدرة على إجهاضها ستفشل وتقع فريسة المساومات، والحل في تفعيل الارادة الشعبية الضاغطة على العمل السياسي بحيث تكون استجابته مرتهنة للإرادة الشعبية وتقليم أظافر التدخل العسكري بخلق حالة شعبية مناهضة لتدخلاته السياسية و لامبراطوريات الفساد المالي خلفه. ولعل أبرز ملامح عدم المؤسسية يبرز عند النظر في الدعم السريع كقوة نظامية على غير معهود القوات النظامية تدين بولاء قبلي لقوادها وهم بدورهم ينظرون إلى أنفسهم ككيان منفصل يصدر عن أمواله الخاصة ويحق لهم أن يفتحوا دفاتر الحساب مع الدولة ليستردوا ما كانوا اقرضوها اياه ذات مسغبة، وهو ما يتناقض مع كل فهم سليم لطبيعة دولة المؤسسات. لقد اقتضت الظروف السياسية والخارطة التي شكلها النظام السابق أن يستحيل الدعم السريع من قوات ذات اصول قبلية قادرة على طبيعة محددة من القتال استخدمها النظام السابق لحسم حركات التمرد في الغرب إلى ضامن للانتقال السلمي للحكومة المدنية منزوعة السلطة، والدعم السريع كذلك لا يفصل مصلحة قواته عن المصلحة الوطنية فتتفرق المصلحة الوطنية بين السلطة الحقيقة وديكورها المدني المكلف حتى تحين ساعة الانشقاق بين تلك المكونات وتنفتح البلاد على كل الاحتمالات. ولو كانت جرائم النظام السابق كلها في كفة وإنشاء الدعم السريع في كفة لرجحتهن جريمة الدعم السريع ليس فقط لأنها أبادت الآلاف ولكن لأنها عززت احتمال فشل الدولة ووقوعها في الحرب الأهلية ومأسسة الغبن القبلي.
قادة التغيير بتعبير المجلس العسكري هم فاعلون سياسيون استفادوا من الثورة لتعزيز أو تأمين مواقعهم السياسية وإضافة مزيد من القوة لمؤسساتهم وبالتالي فإن سرقة الثورة لا يقوم بها الحرية والتغيير أو الإسلاميين من فلول وسلفيين ومتدينين عموما بقدر ما يقوم بها من يعزز دولته الموازية ليضمن مصالح مؤسسية وأجندات دولية. لم تسقط بعد ولن تسقط حتى يدمج الدعم السريع في القوات المسلحة وتسلم أذرعها الاقتصادية لمؤسسات الدولة الرسمية ونرتفع عن سخف تمرير الأجندات الأيدلوجية تحت ستار المشروعية الثورية كما عند الحرية والتغيير، والمليونيات المزعومة والمساومات الخاسرة كما عند الاسلاميين ثم نركز على ساحة العمل السياسي العاكسة للتدافع المجتمعي بين الأيدلوجيات والبرامج الاقتصادية، وعلينا أن ننشر أنه مهما كان ما تمخضت عنه المفاوضات مع المجلس العسكري فإن كل ما حدث هو موجة الثورة الأولى وسيكون هناك موجات أعتى لتفكيك منظومات الفساد التي ضمنت لأسباب راجعة لمصالحها نجاح الموجة الأولى.