المؤلف: عزمي بشارة.
الناشر : المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
سنة النشر : 2017 م
بين أيدينا مراجعة -شبه شاملة- لعمل مهم وهو كتاب الجيش والسياسية للدكتور عزمي بشارة.
تأتي أهمية الكتاب في مستويين؛ مستوى عام في كونه حاول تشريح الحالة الأكثر شيوعًا في الدول الغير ديموقراطية، وهي حالة كثافة تداخل العسكري المدني في الحياة السياسية. وحاول فض الاشتباك المفاهيمي في هذا الملف، تحديداً في علاقة الجيش بالسياسي.
ومستوى خاص إذ من الممكن استبصار الراهن السياسي في السودان ومآلات التداخل العسكري المدني من خلال فهم وإسقاط نقودات وتحليلات الكتاب على واقعنا.
يقع الكتاب في ثلاث فصول رئيسية. في الفصل الأول منها وضع الكاتب محددات نظرية يعمل بداخلها نطاق البحث : كتعريف الجيش المراد في الطرح، والتمييز بين الاحتراف والمهنية، وكذلك ما المقصود بتطلع الجيش للسياسة.
ثم عرّج على موضوع الانقلابات العسكرية مستشهداً بأكثر من نموذج عربي، ومنه تفرع للحديث في سياقات تاريخية عن الدولة الثكنة والدولة البرتروية ( نسبة للجيش البروتوري في رومانيا)، وأخيراً يمرحل الكاتب ما بين الانقلابات الأولى التي كانت تحدث بدافع السيطرة على السلطة إلى الانقلابات الراديكالية التي تحدث بسبب الانتماء لفصيل أيدلوجي معين.
في الفصل الثاني حاول المؤلف تفكيك بنية الجيوش العربية من الداخل، والتعليل لعدم قدرتها على أن تكون مهنية وقاربت النموذج الطائفي، فيما سماه : بفشل بوتقة الصهر العسكرية وبروز الولاءات ما قبل العسكرية. وتناول في هذا الباب الحالة السورية كنموذج تحليلي، وتحت هذا العنوان وضع ثلاث محاور رئيسية وتبدأ بالحفر في جذور تطييف الجيش وعكسرة الحالة الطائفية؛ وهنا قسّم المؤلف هذه الحالة الى خمسة مراحل تبدأ من الاحتلال والانتداب الفرنسي على سوريا إلى جلاء المستعمر وحتى مرحلة الولاء المطلق للقائد والتي أطلق عليها مرحلة ” قائدنا إلى الابد ..الأمين حافظ الاسد “.
أما المحور الثاني في الفصل الثاني كان عن القاعدة الاجتماعية لحزب البعث وعملية الترييف كما سماها.
وآخر محور في الفصل الثاني كان عن ظهور حالة “الشبيحة” او “الذئاب الشابة” وهي النخب الأمنية في المجتمع السوري.
الفصل الثالث خصصه لسبر دوافع العسكر في الهيمنة السياسية متخذاً الجيش المصري والتحولات داخله كأنموذج. ابتداءا من هيمنة العسكر وتداخل سلطات الجيش والرئيس، حتى استقلالية الجيش أو كما سماها الصفقه التاريخية.
فيما يلي باذن الله سنتناول تناولاً تفصيلياً أهم مكونات هذا البحث ونسعى جاهدين لمقاربته بالحالة السودانية السياسية الراهنة.
مقدمة:
يسعى الكاتب لتحديد إطار نظري موضوعي حول علاقة الجيش بالحكم من خلال محددات بحثية نظرية وسياقات تاريخية مثل نشأة الجيوش العربية والسياقات السياسية المتأزمة في الأنظمة المدنية، وما آلت إليه من تدخل مباشر للأنظمة العسكرية في الحياة السياسية.
في الحقيقة هناك سؤال موضوعي ظل يروادني طيلة قراءتي هذا الكتاب. وحاولت جاهداً أن أقرأ الكتاب بعين الباحث عن إجابة لهذا السؤال. وهو ، ماذا لو فشلت القوى المدنية في السودان في أن تتوصل لقواعد تحكم العلاقة فيما بينها، كيف يمكن -في تلك اللحظة- أن يتوغل الجيش على الحياة السياسية؟ بالأخص وأنا ارى اشتعال الصراع فيما بينها قبل ترسيخ الحكم الديمقراطي.
فإننا في السودان وعلى مستوى( محاولة الفهم) انتقلنا من علاقة الجيش بالتحرك الشعبي، إلى علاقة الجيش بالتغول على السلطة والحياة السياسية أو ما يسمى بعسكرة الحياة السياسية.
لعل هذه المراجعة تساهم ولو بقدر بسيط في فك وفهم طبيعة الجيوش وعلاقتها بالفعل السياسي، ومن ثم محاولة إسقاطها على المشهد السوداني الراهن.
المحددات المفاهيمية :
توخياً للوضوح وضع الكاتب محددات لحصر الموضوع ونطاق البحث :
الجيش المقصود في البحث هو الجيش النظامي :
وهو عبارة عن نواة من المحترفين المتفرغين للحياة العسكرية في زمن السلم و الحرب.
أي القوات المسلحة المنظمة في كتائب وفرق وفيالق ، المدربة على الطاعة بموجب تراتبية واضحة في تسلسل الأوامر من الجندي حتى قيادة الجيش.
ولا يقصد القوى غير النظامية المسلحة في خدمة عقيدة أو طبقة أو قضية أو حزب. مثل (الدعم السريع في نموذج السودان) على الأقل قبل أن تصبح قوى نظامية مفوضة من السلطة.
علماً بان هذه الميلشيا تقاتل بجانب الجيش لكنها ليست موضوع دراسته في هذا البحث.
يجدر هنا ذكر الإطار الوظيفي الذي ذكره الكاتب، وهو الدفاع عن الدولة وربما التدخل للحفاظ على الاستقرار الداخلي (ونلاحظ هنا أن طبيعة التدخل فضفاضة لدرجة أنه في بعض الدول شمل حراسة الدستور ولهذا جذر تاريخي فيما يعرف بالبروتورية المستمدة من الحرس البروتوري الروماني ).
ابتدأ الكاتب الخط الزمني للجيوش العربية وعلاقتها بالسياسة بالجيش الانكشاري العثماني، كأول جيش نظامي في التاريخ، ويعرج على بنيته وأصل تكونه ، ويعقد مقارنات بينها وبين فكرة حراس المدينة عند افلاطون. ويشرع في تفكيك مكوناته ويسرد مراحله حتى يصل إلى اللحظة التي قضى فيها الحاكم العثماني على بقايا هذه الفيالق التي انحرفت عن وظيفتها الرئيسية إلى التمرد والخروج السياسي.
التمييز بين الاحتراف والمهنية :
اعتمد الكاتب تصور صامويل هنتغون في كتابة “الجندي والدولة :نظرية العلاقة المدينة العسكرية وسياساتها” على فهم الفرق بين المهنة، والوظيفة والعمل.
وهو يفترض بشكل رئيسي بأن الضباط يشكلون مهنة مثل المحامين والأطباء، مهنة عسكرية لها مميزات خاصة بها، وليست وظيفه أو عمل يؤدى كما في حالة المقاول الإعلامي والتاجر وغيرها من الوظائف.
ولفظ مهنة لديه حمولة وتعبر عن انتماء لمهنة تقوم على مجموعة قواعد وأخلاقيات يلخصها المؤلف في ثلاثة مكونات :
الخبرة (ويقصد بها هنا خبرة إدارة العنف)، المسؤولية، والكوربوراتية أي وجود جسم متعاضد.
يعتبر الكاتب أن هنتنغون باعتباره الجيش مهنة هو بحد ذاته إعادة تعريف للجيش بوصفه طبقة اجتماعية ذات مصالح محدودة، ووعي لتلك المصالح وآليات تعاقدية وجعل تعامله مع المجتمع من منطلق مصالح هذه الطبقة بوسائل التعاون والتفاوض والصراع.
ما من جيش بعيد عن السياسية:
في هذا المحدد ركز الكاتب على أن المقصود بالسياسية هو تطلع الجيش للحكم بمعناه الضيق. و إلا فإن مؤسسة الجيش تتعامل مع شؤون الحرب والدفاع وقضايا “الأمن” والأمن القومي”، وتترواح بين شوؤن عسكرية محضة ومسائل متعلقة بالاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العالم والإقليم والدولة. لذلك فضاء التداخل قائم في الدول الديموقراطية وغير الديموقراطية، ولكن -كما ذكرنا- يعني السياسي بمعناه الضيق أي ممارسة الحكم والاستيلاء عليه أو المشاركة فيه أو اتخاذ القرار في شأنه، وهي ليست قائمة في الدول الديموقراطية.
نلاحظ هنا أن النموذج السوداني كان الجيش فيه مؤدلجاً، ومنقاداً في خدمة الحزب الحاكم و يعتنق عقائده إلى حد بعيد. على الأقل قبل تمرد أفراد من قيادات الجيش على السلطة السياسية مما أسفر عنه اشتباك مسلح بين الجيش وأجهزة الأمن في الدولة، إلى مساهمته بالانقلاب على البشير في 11 أبريل.
حول الانقلابات العسكرية:
يتساءل الكاتب في هذا الباب تساؤل منطقي وهو لماذا في أكثر الدول المرشحة للانقلابات بماضيها السياسي كسوريا والعراق، لم يحدث فيها انقلاب سياسي. فنرى في نموذج سوريا قاد الجيش حملات إبادة جماعية للمتظاهرين السوريين، وأثبت أنهم مستعدين للجبهة الداخلية أكثر من الجبهات الخارجية وظل الجيش موالياً للنظام.
يؤكد الكاتب بان هناك عقيدة كانت شبه راسخة في ثمانينات القرن الماضي بأن السودان وموريتانيا هما الدولتان العربيتان الوحيدتان ذواتا القابلية للانقلاب العسكري. خصوصاً أن العالم العربي لم يشهد انقلاباً قريباً في أكثر الدول ترشيحاً للانقلاب كالعراق وسوريا ومصر، وأيضاً اليمن منذ تولي علي عبد الله صالح. ولكن هذه القناعة سرعان ما تلاشت عند حدوث انقلاب في مصر يعتبره الكاتب مميزاً ونوعاً مختلفاً من الانقلابات العسكرية على الاطلاق.
فإذا كان انقلاب جعفر نميري أو البشير انقلاب ضباط من داخل الجيش على النظام الحاكم، أو على زملائهم في حالات اخرى، فإن انقلاب عبد الفتاح السيسي هو انقلاب الجيش على نفسه، أي قيادته العليا على العملية السياسية.
قدم الانقلاب المصري للباحثين “مفاجأة” أخرى، هي خدمة المثقفين، الذين يرطنون بالدمقراطية والليبرالية، لهذا الانقلاب، وذلك ليس على سبيل الخوف والتقية، بل على سبيل التسويق والتبرير في مايمكن وصفه بخيانة المثقفين للديمقراطية. وحدث ذلك أيضاً في الجزائر عندما بارك المثقفون الحداثيون إجهاض العملية الانتخابية. تتكرر الظاهرة ذاتها وأساسها خوف النخب الحاكمة والمعارضة من صعود قوى جديدة بخطاب ثقافي وسياسي جديد.
الدولة الثكنة :
يستعين الكاتب في توضيح تصوره عن ما أسماه الدولة الثكنة بنظرية (هارولد لاسويل) الذي نظر لدولة تكون فيها النخبة الأمنية هي التي تصنع القرار، نتيجة لفشل وإجهاد المنظومة الساسية بسبب التوتر الدائم الناجم عن خلافات أو حروب طويلة. وهذا النموذج يتجلى في حالة الفاشية والنازية.
وهو النقيض لحالة إقصاء العسكر من الحالة السياسية، والتي نظر هنتغون كما أسلفنا لنموذج معتدل منها وهو مهنية المؤسسات العسكرية.
مقاربات حول النموذج السوداني:
تميز الحكم المدني في السودان بعدم الاستقرار السياسي وتفضيل الصراع الحزبي على المصلحة الوطنية طيلة عهود الديمقراطيات الفائتة.
افتقرت الأحزاب إلى التقاليد الديمقراطية، و لم تكن ذات قواعد متصلة ومشتركة. وظلت الأزمات الاقتصادية وعدم تكاتف النخبة السياسية دائما السبب الذي جعل الجيش يتغول على الحياة السياسية طيلة الستين عاما الماضية.
فلو أخذنا جولة بانورامية تاريخية سنجد منذ الانتخابات البرلمانية الأولى سنة 1954 والتي فاز فيها الحزب الاتحادي الديمقراطي بالغالبية العظمى واصبح اسماعيل ازهري رئيسا. ناصبه مباشرة العداء حزب الأمة وظل الصراع بينهما طيلة فترة الحكم.
ثم أيضاً في عام 1958 فاز حزب الأمة بالغالبية وتحالف مع حزب الشعب الديمقراطي. وسيطرت حالات من الاحتجاجات المدنية وعدم الاستقرار نتيجة للاستقطاب الحاد، والذي كرّس لحالة الحرب الباردة بين الأحزاب. مما اضطر رئيس الوزراء حينها عبد الله خليل تسليم السلطة إلى الجيش بقيادة إبراهيم عبود، في تعبير واضح عن عجز الأحزاب عن قيادة البلاد. وهكذا قُذف بأكثر الانتخابات نزاهة في تاريخ السودان إلى ثكنات العساكر.
ومن بعد عبود أيضا دخل السودان في حالة النزاع القطبي الأيدلوجي بعد ثورة 1964 التي أطاحت بالدكتاتورية العسكرية.
حيث ما لبثت أن ظهرت النزاعات في صفوف الأحزاب عند تسلم سر الختم الخليفة الحكومة الانتقالية، وحتى بعد تكوين حكومة وحدة وطنية بين الأحزاب ظل الحزب الشيوعي ومعه حزب آخر معارضين لحكومة الوحدة.
وبعد انتخابات 1968 قامت حكومة ائتلافية بين حزب الأمة وحزب الاتحاد الديمقراطي، واستمرت حالة عدم الاستقرار و تبدل التحالفات، إلى أن أتى انقلاب 1969 والذي باركه الحزب الشيوعي، وشرع في تشكيل الاتحاد الاشتراكي.
وبدأ صراع ضد الحزب الشيوعي إلى أن نظموا محاولة انقلابية عام 1971 فشلت وأُعدم على إثرها- كما هو معلوم- كل قيادات الحزب الشيوعي.
وهكذا استمرت الاضطرابات على مستوى الحياة السياسية المدنية، ومع تزايد وتيرة الأحداث تصاعدا كان الجيش يتحرك وتتخلق محاولة انقلابية. وكانت تفشل كلها مثل محاولة حسن حسين وعبد الرحيم شنان، إلى أن أسقطته الثورة الشعبية في أبريل بعد أزمة حكمه الاجتماعية و الاقتصادية العميقة وتورطه في صراع الجنوب، تلك الثورة التي استجاب لها الجيش بقيادة سوار الذهب.
الذي بدوره أسس ورسخ للحياة السياسية من جديد في أجواء أكثر نقاءًا وهدوءًا.
وفاز حزب الأمة واشتعلت مرة أخرى سلسة من التوترات الحزبية، إلى أن تم الانقلاب عليه من قبل الجيش مدعوما بالإسلاميين.
وهكذا نرى بأن العائق الأوحد دائما مايكون افتقاد الأحزاب لقواعد مشتركة تسوس بها نفسها وتمنح الحياة السياسية شيئا من الاستقلالية والسيادة.
والآن بعد ثورة ديسمبر 2018 تتجدد حالة عدم الحرص السياسي، وممارسة بعض القوى الحزبية الإقصاء وعدم تعلم الدرس.
هذا الأمر كفيل بأن يبدد رصيد الثورة السلمية المدنية التي شارك فيها جميع أطياف المجتمع، كما حدث في غيرها.
هذا الجشع السلطوي سيحطم كل التطلعات الديمقراطية، خصوصا في حالة الفقر وضعف الطبقة الوسطى وهشاشة الدولة.
ويحرض بشكل مباشر على عسكرة الحياة السياسية أو نموذج الدولة الثكنة.