المؤلف: د.عبد الله علي إبراهيم
الناشر : دار الأمين
عدد الصفحات: 164صفحة
سنة النشر : 2004م
كما يأتي الاستعمار مدججاً بأسلحته الثقيلة ليفرض نفسه على أهل البلاد، فهو كذلك يأتي حاملاً لخطاب ثقافي معين، يفرضه على عقول أهلها، نابذاً كل ثقافة وراء ظهره، بدعوى أنها تقاليد وأعراف رجعية متخلفة، والتي لا شك ستقضي عليها الحداثةالتقدمية.
يدرس د.عبدالله علي إبراهيم المفكر اليساري والأكاديمي السوداني، أستاذ شرف تاريخ أفريقيا والإسلام في جامعة ميسوري بالولايات المتحدة الأمريكية، في كتابه الحداثة والشريعة: جدل الأصل والعصر، الهيمنة الاستعمارية بما تحمله من أجهزة قمع شرعية وأخرى أيديولوجية، والتجديد الإسلامي كهيمنة مضادة بلغة أنطونيو غرامشي، دارساً الجانب التشريعي والقضائي والتعليم كميادين لصراع الخطابين.
قسّم الكتاب إلى سبعة فصول، وثيقة الصلة ببعضها، وسنختصر فحوى الكتاب في مراجعتنا هذه في سؤالين نرى أن الكتاب حاول الإجابة عليهما:
١. لماذا همّش الاستعمار الإسلام الذي هو ثقافة أهل السودان، وكيف؟
٢. لماذا استمر ذلك التهميش بعد خروج المستعمر؟!
فانطلق المؤلف للرد على السؤال الأول في الفصل الأول، في محاولته الإجابة على السؤال الذي أثاره الدكتور زكي مصطفى وهو”لماذا لم يستفد القضاة الإنجليز وخَلَفهم من السودانيين من الشريعة الإسلامية في إنشاء قوانين السودان، في حين كان متاحاً لهم ذلك بفضل الصيغة الموجهة لعملهم القضائي والتشريعي القائلة أن بمقدورهم الاستعانة بأي قانون طالما لم يصادم العدالة والسوية وإملاءات الوجدان المسلم؟”. فرغم أنه كان بمقدورهم استخدام الشريعة كمصدر للتشريع لا لأنها لم تصادم الصيغة المتاحة لهم فحسب، بل لأنها تفوق القوانين الوضعية عدالة وهي ما يرضاه أهل البلاد لأنها من صميم ثقافتهم، وكما قال عنها د. عبدالله علي إبراهيم نفسه في إحدى لقاءاته التلفزيونية “إذا تحدثنا عن العدل، فلابد أن نذكر الإسلام.
فردّه على سؤال دكتور زكي مصطفى هو ما يمكن تسميته بـ”التهنيد”، وهو أن الاستعمار بعد تجربته في الهند، عمم تلك التجربة على مستعمراته الأفريقية، بل أن الثقافة والمؤسسات التي نشرها البريطانيون حول العالم كانت في الغالب هندية أكثر منها بريطانية، وذلك بعد الصراع مع التقاليد الهندية والوصول إلى القول بأن الشرائع الهندية التقليدية، إسلاميةً كانت أو هندوسية، ما هي إلا خبط عشواء ولا تصلح كنصوص للقانون.
وهكذا جاء الإنجليز إلى السودان، وهم في حال جفاء وعداء مع الشريعة الإسلامية، وفي رأيهم أنها لا تزيد عن عادات متخلفة لأُناس لم يبلغوا تطور الإنسان الأوربي، ولمّا كانت نظرتهم تلك تفترض عدم وجود أي مصادر للعدل قبل الاستعمار، بدؤوا بإنزال قوانينهم الهندية المستمدة من القانون الإنجليزي، رامين بشرطها التاريخي والجغرافي والثقافي أدراج الرياح، ودون مراعاتهم لمجافاة تلك القوانين لعادات أهل البلد، كتقنين الزنا واللواط، وبلغت تلك القوانين أوج مجافاتها للعادات السودانية، حين نظّم القانون إجراءات التقاضي بشأن صراع الديكة!
فالإجابة على سؤال لماذا همّش الاستعمار الإسلام الذي هو ثقافة أهل السودان؟! هو الخطاب الاستعماري الذي ينظر للشريعة كحاجز ومانع للأمم عن المضي نحو الحداثة والتطور، واجب الإزالة.
أما الإجابة على سؤال كيف كان ذلك التهميش؟، فهو ما بيّنه في الفصل الثاني، حيث استعار في فصله الثاني وصف الطبيب النفساني المارتينكي فرانز فانون للعالم المزدوج بأنه “مانوي” نسبة إلى ماني، صاحب الديانة الفارسية التي تعتقد في انقسام العالم إلى مفردات شر وخير وظلام ونور، ويدور بينها صراع أزلي. فوسم وعنون الفصل الثاني بـ”قسمة مانوية: صراع القضاة المدنيين والشرعيين والتجديد الإسلامي”. فالاستعمار يأتي حاملاً ثقافته على أنها الخير والنور، وأن اتّباعها هو عين التقدم والتطور، وأن ما سواها من ثقافات هي شر وظلام لابد من محاربته وإزالته، فبيّن في فصله الثاني كيف أقام الاستعمار قسمته المانوية تلك في كل شيء، بدءً بإعادة الخرطوم عاصمة للبلاد، ومحو أمدرمان حاضرة دولة المهدية، وسار على ذات النهج انقسام سوق الخرطوم إلى “أفرنجي” و”عربي”، ودور التعليم إلى “مدارس” و “خلاوي” أو “كلية” و “معهد ديني”. فصار كل ما هو حديث أعلى قدر من ذلك التقليدي، فيرفع صاحبه درجة على الآخر.
وبدت هذه القسمة بشكلها الواضح في الجانب القضائي، حيث قسمت المحاكم إلى مدنية عصرية وأخرى شرعية تطبق الشريعة في أحوال المسلمين الشخصية فقط، وأعلت الحكومة الاستعمارية من مكانة القضاة والمحامين المدنيين، مع إهمال تام للقضاة والمحامين الشرعيين، فبينما كان القضاة المدنيين يركبون السيارات الفارهة، كان القضاة الشرعيون يغبرون أقدامهم بالتراب، وزادت امتيازات المدنيين وتنعموا بالترقيات، بينما كان الواحد من القضاة الشرعيين يبقى السنين الطِوال ونفسه تحدثه برتبة أعلى. وتوسعت صلاحيات المحاكم المدنية إلى درجة كان بإمكانها أن تحكم في بعض قضايا الأحوال الشخصية الخاصة بالمحاكم الشرعية، فرتعت في حِماها وما عفّت، وما كان للمحاكم الشرعية سوى قضايا الأحوال الشخصية، من زواج وطلاق، فقلّت مكانتها في نفوس الأهالي، حتى كانوا يطلقوا عليها “محاكم النسوان”. كل تلك العوامل وغيرها أدت إلى عزوف الطلاب عن العمل في المحاكم الشرعية، والتوجه لدراسة القوانين المدنية للعمل في المحاكم المدنية، تاركين العمائم إلى البدلة الأفرنجية، طمعاً في تلك الامتيازات.
ونفس تلك القسمة سرت في التعليم، وقُسّمَ إلى تعليم الكليات الحديث، وتعليم المعاهد التقليدي، وبنفس ذات النهج زادت امتيازات خريجي الكليات وأساتذتها، على خريجي المعاهد ومعلميها. فبعد أن وضّح سبب تهميش الدين وأسلوب التهميش، جاء في فصليّه الثالث والرابع، ليدحض الدعاوى التي انبنت عليها تلك النظرة الدونية للشريعة، وأن تلك الدعاوى ما هي إلا نتيجة لخطاب استعماري لا أساس له من الصحة.
فجاء في فصله الثالث ناقداً للدعوى التي انبنى عليها الفصل المانوي ذاك، وهي إن الحداثة تقدمية، والشريعة رجعية، فعنون الفصل الثالث بـ”الشريعة التقدمية، الحداثة الرجعية”، مُبيناً فيه أن الشريعة سبقت الحداثة في كثير من التشريعات التي كانت تدعو لها الحداثة نفسها، وضرب مثلا بالرق، الذي ادَّعى الاستعمار بأنه وصمة عار في الأحكام الشريعة، حيث أنها تقبله وتقننه. ولكن الكاتب يوضح بأن المحاكم الشريعة تقبلّت قوانين إلغاء الرق دون معاناة، بينما الاستعمار كان هو المماطل في التنفيذ، خوفاً من الآثار الاقتصادية لعتق الرقيق، وخوفاً من أن يثور عليه الزعماء أصحاب النفوذ الذي يعمل على تقريبهم منه.
وأبان أن السبب الأول للقول بتقليد الشريعة وعدم مواكبتها للحداثة، هو تقييد الشريعة وعدم السماح لها بالخروج من دائرة الأحوال الشخصية، فالاستعمار حال بين الشريعة والخوض في ابتلاء الحداثة، فلم تُعطَ فرصة للكشف عن قيمتها كمصدر محتمل للتحديث.
أما الفصل الرابع فخصصه للحديث عن حسن الترابي، من خلال اللقاء الذي أجراه معه عام ١٩٩٦، ولا يخفى على القارئ إعجاب الكاتب بحسن الترابي، على الرغم من الاختلاف الأيديولوجي. وفحوى هذا الفصل، هو الحديث عن حسن الترابي كمجدد إسلامي، قام بتجديد الدين ليواكب الحداثة ويخوض في غمارها، “وليعود بالدين من منعزله، لينهض بعبء التغيير الاجتماعي”، ويدحض الكاتب من خلال هذا الفصل الدعوى القائلة بتصادم الدين مع الحداثة، وأن الحداثة تقتضي زوال الدين، بل يمكن القول بأن الكاتب يرى أنه متى ما أُتيحت للدين فرصته، فسيخلق حداثته.
أما السؤال الثاني: لماذا استمر ذلك التهميش بعد خروج المستعمر؟!
نفتتح الإجابة على هذا السؤال باقتباس الكاتب من فرانز فانون “أن المثقف الوطني يبقى بعد رحيل الاستعمار خفيراً حريصاً على الإرث والفضاء الاستعماري”. وهذا وصف دقيق لما حدث في السودان، فنجد أن الحرب ما زالت ضروساً بين المحاكم الشرعية والمدنية، بين الكليات والمعاهد الدينية، وهذا ما نسميه الخطاب الاستعماري أو الهيمنة الثقافية، وما يدعو للعجب، ليس استمرار ذلك النهج بل الازدياد فيه، فكوّنت لجنة للنظر في تخفيض جامعة أمدرمان الإسلامية إلى كلية للدرسات العربية والإسلامية. وإعادة المحاكم الشريعة بعد أن حظيت ببعض الامتيازات بعد جُهد جهيد، إلى قضايا الأحوال الشخصية تحت إمرة القضاة المدنيين، وتخفيض عدد الحصص المخصصة لتدريس الديانة الإسلامية.
وأنتقل ليحكي لنا عن تلك القسمة المانوية، التي استمر فيها الأفندية، من سيرة الأستاذ عبدالله الشيخ البشير، كخريج أحد المعاهد، ليحكي لنا عن معاناة المعهديين، وامتيازات الغردونيين، لنسمع التاريخ من أحد المستضعفين، لا كما كتبه لنا الأفندية، فهو الذي امتنع الغردونيون من إقامة حفل تأبينه لأنه من خريجي المعاهد!
فأبى “الأفندية” أن يتركوا البدلة و”الجزمة” ويعودوا للجلباب و”المركوب”، وظلوا محاربين أشاوس في الدفاع عن ثقافة البِيض وناسين سِحنتهم، ينظرون لأنفسهم وبلادهم بعدسات زرقاء، وذلك ما يمكن تسميته بـ”الاستشراق الداخلي”. وهو كما عرفّه الكاتب “هو أن يستبطن المسلم المغلوب على أمره صورة المستشرقين الدونية عنه، ويتبناها ويحكم بها على تاريخه وعقله ومكانه”.
ولكن على الرغم من سيطرة الخطاب الاستعماري، لم يترك دعاة الشريعة فرصة إلا واستغلوها، وظلوا في محاربة ومقاومة الخطاب السائد، مرتدين عمائمهم حانقين على ربطات العنق، وهذا ما أسماه أنطونيو غرامشي “بالهيمنة المضادة”. ويظهر ذلك جليّاً في الفصل الأخير الذي خصصه للشيخ مدثر البوشي، محللاً سياق قصيدته الميمية التي ألقاها على مسامع الناس في الليلة الختامية للمولد عام ١٩٢٣م، عندما كان طالباً بقسم القضاء الشرعي بكلية غردون، فألهبت أيدي الجماهير، وأخرجتهم ولو قليلاً من ذلك الخطاب الاستعماري، ليروا سواد سحنتهم، ويذكرهم بدينهم، ليبين أن الوجدان السوداني ما زال يضيء بنور الدين، على الرغم مما رانه من دنس الاستعمار.
وبدأ ينشد القصيدة مغازلاً بها أسماع الناس، إلى أن قال:
أرانا هجرنا الدينَ والدينُ معقلٌ
فما خير سيفٍ لم يؤيده قائم
أراى البدعة الخرقاء أرخت سدولها
على السنة الغراء أين الصوارم؟!
وقيل أن أحد المشايخ صرخ عندها قائلاً: في أغمادها، في أغمادها.
والشيخ مدثر البوشي كان صاحب حملة إصلاحية في جامعة غردون، بعد الانحلال الأخلاقي الكبير فيها، خاصة الذي يشيعه “مستر يودال”، مدير الجامعة ذو الميول المثلية. وتوسع الشيخ في حملته تلك، وكثيراً ما نُكّل به، وجُلد في الجامعة، وكل ذلك ما ثناه عن دعوته، ولا منعه من أن يُلقى قصيدته الميمة في حفل المولد القادم، تحت أنظار البريطانيين وحنقهم الشديد عليه. وهذا يذكرنا بمواقف الشيخ البشير الإبراهيمي في الجزائر، في مقاومته للخطاب الاستعماري.
وبعد هذه القراءة السريعة للكتاب والربط بين فصوله، نوضح مقصود الكاتب وفق ما قرأناه، وهو الذي ذكره في بداية مقدمته قائلا:” يريد هذا الكتاب أن يدرس منشأ التجديد الإسلامي المستفحل في السودان الذي هو وجه من وجوه صحوة إسلامية مشاهدة، تواضعنا على وصفها بالأصولية الإسلامية”. وهذا ما أشرنا إليه في ثنايا الكلام بـ”الهيمنة المضادة”؛ لنبين عمل حركات التجديد الإسلامي كحركات مقاومة للخطاب الاستعماري مُنذ النشأة، بل يمكن القول بأن هذه الضغوطات هي التي قادت لوحدتهم، وعملهم الدائم لعودة الدين، وظهر ذلك جليّاً بعد خروج المستعمر، خصوصاً فيما أُطلق عليه الميثاق الإسلامي، فعلى الرغم من البطش الاستعماري المادي والمعنوي، كان حُماة ثقافة البلاد في عمل دؤوب لإعادتها للقمة التي نازعها فيها المستعمر وحُماته الأفندية. واستمرت تلك المقاومة إلى أن حظي بكثير من مطالبهم، أهمها تساوي القضاة الشرعيون والمدنيون في المرتبة، و حصول المعلمين على أكثر حقوقهم، وبان ذلك في الكلمة التي ألقاها الأستاذ عبدالله الشيخ البشير في حفل أقامته رابطة معلمي اللغة العربية والدين عام ١٩٨٨ لتكريمه: “قطعنا شوطاً طويلاً منذ أن كنا متكلسين في الترقيات قاصرين عن بلوغ المجموعات. فقد أصبحت المجموعة الثالثة حقا خالصا لنا الآن، إنما ينبغي لنا الآن أن نواصل مسيرتنا لولوج المجموعتين الثانية والأولى، وهي ذروة سنام التدرج والترقية”.
فلا يسعنا أن نقرأ الكتاب إلا كمحاولة لتفكيك الخطاب الاستعماري، فيخرج بقارئه من أرض الخطاب، ليلقي عليه نظرة من خارجه، ليرصد مداره ومساره، ويخلع عنه نظارة الخطاب، ليُبصر أوهامه، ويرى الملك عارياً بعيداً عن سطوته. ويبين أشكال مقاومة الخطاب، وردود الأفعال تِجاهه، وما نتج عنه. فهو بذلك يوضح أن التجديد الإسلامي كان في حرب ضروس، مع الاستعمار وحماته الأفندية، ليعيد الخطاب الثقافي الإسلامي لأهل البلد إلى مكانته التى رُفع عنها جبراً، وهو ما حدث في كثير من البلاد المُستعمرة، وما زال يحدث إلى يومنا هذا، بالفرض الإعلامي للخطاب الغربي، خالقاً زمرة جديدة من الأفندية، تسعى لوضع دساتير غربية، فبدلاً من أن تضع دستوراً يُعبر عن أهالي النيل وثقافتهم، وضعت دستوراً يُعبر عن أهالي مانهاتن.ولكن اختفائها لا يدل على عدمها”.