الناشر: نهضة مصر-سلسلة التنوير.
حجم الكتاب: 52 صفحة.
بقلم : منى ماجد.
عندما يقوم دكتور عبد الوهاب المسيري- رحمة الله عليه- بتحليل وتفكيك النموذج الكامن وراء ظاهرة ما، يصبح من العصي علينا -والمخل أحياناً- اختصار ذاك التحليل الرصين، أثناء محاولاتنا سرد الأفكار الرئيسة فيه.
نجد أن المراجعات النقدية للفكر الغربي الحداثي وما بعد الحداثي تحتل جانباً كبيراً من كتاباته، وفي إطار مراجعاته تلك أفرد المسيري مجالاً للفكر النسوي الغربي. فنجده يتطرق في هذا الكتاب الصغير حجماً الكبير فائدة إلى بعض المسائل المثارة حول تحرير المرأة ويحلّل فِكر الحركات النسوية.
والكتاب ينقسم إلى تسعة أجزاء:
الجزء الأول تحت عنوان “بين الإنسان والإنسان الطبيعي” يحدد المسيري أموراً هامة تنبني عليها دراسته، يشير فيه إلى أننا نميل لاستيراد الكثير من المفاهيم والمصطلحات من الغرب دون تناولها بنظرة نقدية، متناسين أنّ تلك المفاهيم تحمل بالضرورة منظور واضعها وتحيزاته التي قد لا تماثل منظورنا بالضرورة.
كما أننا نقوم بأخذ تلك المفاهيم ونفصلها عن سياقها الحضاري والفكري العام، فلا نحدد الفلسفة التي تنطلق منها تلك المفاهيم.
فمثلاً يرى المسيري أنّ ترجمة” النسوية” لمصطلح Feminism ترجمة غير موفقة إذ أنها لاتوضح المفاهيم الكامنة وراء المصطلح، والتي وضعت تحت إطار ما يسميه”نظرية الحقوق الجديدة”.
فقد كان الإنسان بإنسانيته إطاراً مرجعياً للحركات في تلك الحقبة، عبر وضع حدود فاصلة بين الإنسان/الطبيعة وبافتراض وجود مركزية ومعيارية ومرجعية إنسانية، وطبيعة إنسانية مشتركة، تحتكم إليها هذه الحركات، غير أنّ معدّلات الترشيد المادِّي للإنسان بعد ذلك تصاعدت؛ فأُعيدت صياغة المجتمع والإنسان ضمن معايير المنفعة المادية والجدوى الاقتصادية كما يرى.
ويتابع أن هذه التغيرات أزاحت الإنسان من المركز إلى الهامش، فحلت محلّه السلع والأشياء. وتمدَّدت هذه النظرية المادية فشملت كل جوانب الحياة، حتى غدا العمل الإنساني مؤطَّراً بكونه العمل الذي يقوم به المرء نظير الأجر النقدي في الحياة العامة؛ وبذلك يُقصي الأمومة عن كونها عملاً اعتباريّاً ذا قيم لأنها بلا أجر مادي.
وبهذا يكون الإنسان قد تفكك وتحوّل من الإنسان المركز المنفصل عن الطبيعة إلى الإنسان الهامش المادي المتّحد مع الطبيعة والذائب فيها.
وعلى صعيد نسوي محض فقد تُرجم هذا التحوّل بظهور حركة الفيمينزم، والتي يترجمها المسيري:”التمركز حول الأنثى”، ولا يقبل باستسهال تسميتها” فيمينزم”أو اختزالها بـ”النسوية”؛ لأن هاتين الكلمتين لا تنفُذان إلى المفاهيم الكامنة وراء المصطلح الكثيف والذي يحمل عدة معان، خصوصاً أنًّ هذه المصطلحات غير بريئة ولا محايدة.
كما يفرّق المسيري بين حركة” تحرير الأنثى”وحركة” التمركز حول الأنثى”، فالأولى تنطلق من مفهوم الإنسانية المشتركة (الواحدية الإنسانية)، بينما الثانية تنطلق من فكرة الصراع المستمر ومادية الإنسان.
وهذة الحركة الثانية متحررة من التاريخ منفتحة على التجريب المستمر، فلا تستمدّ مرجعيتها من التاريخ الإنساني لأنها ترى فيه ظلماً على الأنثى، وإنما تعامل الإنسان كمادةٍ يمكن إعادة صياغتها على نحوٍ جديدٍ مرجعيته الوحيدة هي التغير والتجريب.
هذا الفكر يركز على حقوق الفرد، لا المجتمع، وكأنّ هذا الفرد كائنٌ بسيط غير اجتماعي منقطع عن أي سياق تاريخي لا تربطه علاقات بأسرة أو مجتمع أو دولة أو مرجعية تاريخية أو أخلاقية.
إذ نجد هذا العالم يركّز النظام الجديد على مفهوم الأقليات (الجماعات الدينية، والجماعات الإثنية، والشواذ، والمعاقون، والمسنّون، والبدينون، والأطفال، والنساء)، لا بمعنى الأقلية العددية وإنما لتغييب فكرة الأغلبية التي تنطوي على معايير إنسانية وثوابت.
يستكمل المسيري في الفصل الثالث تبيان الفرق بين الحركتين.. إذ تدافع حركة تحرير المرأة عن حقوق المرأة في إطار الإنسانية المشتركة وانتماء الإنسان لمجتمعه وحضارته باستقلالٍ عن المادة، وتعامل المرأة ككائن اجتماعي ينشد العدالة للجميع سياسياً واقتصادياً واجتماعياً (مع وجود أصوات متطرفة).
ويذهب إلى أنّ حركة التمركز حول الأنثى هي تعبير عن هذا التحول المادي وتغييب القيمة الإنسانية، وتتبدى رؤيتها في مرحلتين يبيّنهما في الفصلين التاليين.
المرحلة الأولى تظهر في انقسام العالم إلى ذكور متمركزين على ذواتهم، وإناث متمركزات على ذواتهن، في حالة صراع وهيمنة “الواحدية الإمبريالية والثنائية الصلبة والواحدية الصلبة”. المرأة هنا” متمركزة حول ذاتها تشير إلى ذاتها، مكتفية بذاتها، تود اكتشاف ذاتها وتحقيقها خارج أي إطار اجتماعي، في حالة صراع كوني أزلي مع الرجل المتمركز حول ذاته، وكأنها الشعب المختار في مواجهة الأغيار”. هنا القضية ليست الدفاع عن حقوق اجتماعية وسياسية، وإنما بحث عن الهوية.
وفي إطار هذه الرؤية تبحث داعيات التمركز حول الأنثى عن تاريخ الأنثى، وتذهب بعضهن إلى وجود معارك في الزمن القديم تحوّلت المجتمعات إثرها من مجتمعات أمومية إلى مجتمعات بطريركية ذكورية، وإلى أنّ التاريخ أصبح يُسرد من وجهة نظر ذكورية ويقصي الإناث.
وهكذا تبرز الدعوة إلى”إعادة صياغة كل شيء: التاريخ واللغة والرموز، بل الطبيعة البشرية ذاتها كما تحققت عبر التاريخ وكما تبدت في مؤسسات تاريخية وكما تجلت في أعمال فنية، فهذا التحقق والتبدي والتجلي إن هو إلا انحراف عن مسار التاريخ الحقيقي”.
فهنالك من يدعو إلى التغيير في اللغة الذكورية (مثلا في الإنجليزية تغيير استخدام he إلى s/he، وتغيير women إلى womyn كي لا تحتوي كلمة نساء على كلمة men، وتغيير spokesman إلى spokesperson) واستخدام ألفاظ حيادية لا تحدد جنساً. ذاك الأمر وصل في تطرفه لتمجيد السحاق، حيث المرأة لا تحتاج إلى الرجل للذة، ولا تحتاج إليه للإنجاب، مستبعدة هذا الشريك الرجل في الإنسانية المشتركة.
وتصل هذه الرؤية إلى قمتها أو هوتها بأن تعلن المرأة استقلالها النهائي ويصبح السحاق في النهاية هو التعبير النهائي عن هذه الواحدية الأنثوية، وحسب تعبير إحدى رائدات هذا الفكر”إذا كان الفيمنيزم هو النظرية فالسحاق هو التطبيق”.
تدور في هذا الإطار كل حركات الفيمنيزم المعاصرة في الغرب، وبذلك تختلف عن حركات تحرير المرأة القديمة والتي كانت تسعى للحصول على حقوق المرأة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إطار إنساني شامل.
لكن هذه الواحدية الأنثوية الصلبة تتطور فيما بعد إلى واحدية سائلة في المرحلة الثانية تجمع بين الرجل والأنثى وكلاهما كائن مادي طبيعي ولا تفرق بينهما ذكورة ولا أنوثة، وليس هناك مجال للروحاني والقيمي، إنما خضوع لقانون طبيعي مادي لا يعترف بالخصوصية ولا الثنائيات ومن ثم يظهر الجنس الواحد أو الجنس المتوسط unisex، فالذكر مثل الأنثى والأنثى مثل الذكر كلاهما كائن طبيعي مادي لا خصوصية له، وبسقوط المرأة الأنثى تتهاوى الأسرة وتتراجع الإنسانية المشتركة ويصبح كل إنسان مجرد فرد طبيعي مادي له مصلحته الخاصة وقصته الصغرى، ويتصادم أفراد البشر مثل تصادم الذرات المادية، وتتم الإشارة إلى الإله في هذه المرحلة السائلة باعتباره ذكرا وأنثى أو شيئا، وقد ورد في إحدى ترجمات الإنجيل الأخيرة أن الإله هو he/ she/ it!
ذوبان بلا ملامح .. حيث تتساوى بالرجل لأنهما هما الاثنان مادة تُختزل إلى حالة مادية لا ترى فرقا بين ذكورة وأنوثة في عالم لا مركز له لا يكترث بأية ثنائيات، يقول المسيري أنه بعدما أصبحت المرأة سوبر وومان (في حالة الواحدية الإمبريالية) تحولت الآن إلى الفئة الأدنى subwoman..
تنتهي حركة التمركز حول الأنثى إلى التفكيك الكامل لكل ثوابت اللغة والتاريخ والمجتمعات”ذوبان الأنثي”، وتهدم العلاقة الأزلية بين الرجل والمرأة، فالرجل عدو، والهوة بينه وبين المرأة سحيقة لا يمكن عبورها لذا يجب الانفصال التام، ويستطيع كل جنس أن يصبح آباءً وأمهات في نفس الوقت، فالرجال الشواذ بإمكانهم أن يكونوا آباءً وأمهات لأطفال في نفس الوقت، والنساء السحاقيات بإمكانهن نفس الأمر، وتقنيات العلم الحديث تساعد في ذلك.
بعد أن تتحول المرأة من إنسان إلى كائن مادّي يُفسَّر في إطار المادّة بحيث لا تشير المرأة إلى ذاتها وإنما إلى المادة، تأتي المرحلة اللاحقة وهي تسويتها بالرّجل في الوجوه جميعها؛ إذ إنَّ دورها لا يختلف عن دوره؛ فكلاهما إنسان مادّي والجامع بينهما المادية لا الإنسانية، المادية التي لا تبالي بذكورة الذكر وأنوثة الأنثى، فهذا العالم متعدد المراكز لا يلتفت للفروق الظاهرية والباطنية حيث إنه عالم سائل.
في الفصل السادس يؤكد المسيري على أنّ حركة تحرير المرأة تدرك الفوارق بين الجنسين ولكنها تسعى إلى عدم تحوّلها إلى مبررات ظلم اجتماعي، في حين أن حركة التمركز على الأنثى إما ألا تجد إمكانية لتجاوز الفروق بين الجنسين وإما أن تنكر وجود الفروق. لذلك فهم لا يعترفون بتوزيع الأدوار الاجتماعية، فالرجل يجب أن يكون أباً وأماً، والمرأة تكون كذلك أماً وأباً.
أما الفصل السابع فيقارن فيه المسيري بين حركة التمركز حول الأنثى وبين حركة الصهيونية، ويرى تشابهات كثيرة بينهما. وفي الفصل الثامن يقترح البديل للدعوات العربية للتمركز حول الأنثى.
يعتقد أنّ الحل ليس في التشديد على حقوق الفرد، وإنما الأجدى هو البدء من حقوق الأسرة ثم الانطلاق منها لحقوق الأفراد المنتمين إليها، ويدعو إلى إعادة الاعتبار لدور المرأة في تربية الأطفال بوصفه وظيفة إنسانية عالية القيمة دون النظر إلى الاعتبارات المادية الصرفة.
هو لا يدعو إلى حرمان المرأة من العمل وإنما حلّ المشكلة وفق نظرتنا، فكل مايدعو له هو إنقاذ المرأة من هذا التوتر الناشئ عن رغبة تحقيق الذات المشروط بالتخلي عن الأسرة. كما يجب النظر إلى قضية المرأة في إطار ارتباطها بقضية أعم وهي مسألة تحول العالم إلى النمط الحركي الاستهلاكي السريع وبدلاً من أن نطالب بتحرير المرأة كي نقذف بها في ذلك الخضم الاستهلاكي المتسارع، علينا أن نطالب بإبطاء حركة الرجل قليلاً وتقليل الإيقاع الاستهلاكي السريع المتواتر، وإفساح المجال للرجل كي يعيش حياة أكثر هدوءاً وإنسانية في إطار الأسرة مع المرأة. و ذلك بإعادة تعليم الرجل وإكسابه خبرات ومهارات الأبوة والعيش داخل الأسرة والجماعة. أيضا يطالب بإعادة تعريف العمل؛ فبدلاً من تعريف العمل بأنه العمل الذي ينتج سلعاً وخدمات نعرفه بالعمل المنتج إنسانياً.
ويدعو كذلك إلى فكرة عمل تقسيمات زمنية ليوم العمل تتناسب مع المرأة العاملة الزوجة والأم، ويدعو إلى بعث ما يسمى الاقتصاد العائلي والذي أثبت كفاءته واستمراريته في مجتمعات حديثة مثل اليابان والولايات المتحدة.
يطالب الكاتب باستمرار الدراسات النظرية حول قضية المرأة مثل إجراء دراسات حول تآكل الأسرة في الغرب والتكلفة الاجتماعية الاقتصادية لذلك، وتأثير ذلك على الأجيال الناشئة، ثم يناقش المسيري ما تفعله الإمبريالية النفسية بالإنسان المعاصر وبخاصة المرأة فهى توسع شهوة الإنسان للاستهلاك وتولد بداخله عدم الإحساس بالقناعة والرضا عن النفس، وقد نشأت صناعات ضخمة على هذا الغزو النفسي للمرأة وإشباعها بالإحساس بعدم الرضا عن شكلها وجسدها وهي صناعات التجميل والأزياء، ويتم حوسلتها أو استخدامها كوسيلة في الترويج لهذه المستهلكات، وتأتي صناعة السينما في هوليوود لتكون ضمن الصناعات والمؤسسات المنتجة لصورة المرأة الجديدة؛ المرأة المتعرية من ملابسها ومن إنسانيتها ومن خصوصيتها الثقافية والاجتماعية.
وبعد أن انتهى من عرض أفكاره ورؤيته يلخص رسالته المتضمنة في كتابه هذا بالعبارة التالية المفعمة بالدلالات والمعاني:”إن حركة التمركز حول الأنثى هي جزء من هذه الهجمة الشاملة ضد قيمنا وذاكرتنا ووعينا وخصوصيتنا ويجب أن ندرك هذا ونعيه حتى لا تكون معركتنا جزئية وغير واعية بذاتها”.