إعلان نيتشه موتَ الإله .. أزمة القيم وسؤال البديل*
كتبه: إيريك والتر **
ترجمة: سلمى نبيل ***
في عام 1844 قدِم فريدريك نيتشه إلى الحياة، لينطفئ وهجه ويلوذ بالصمت عام 1889م، وبعد مضي إحدى عشرة عاماً يوارى ثراه ويعد في طليعة الفلاسفة في القرن العشرين، استمدت أهميته من إدراكه ببصيرنه المدهشة بأكثر مشكلات الحداثة إثارة للقلق كمشكلة القيم، لكن لم تكلل مساعيه لحل تلك المشكلات بنجاح وإن كانت قد كشفت بغور عن أعماق قضايا لاتزال تطرح إلى اليوم.
لنعد بالبداية إلى حيث اعلان نيتشه ذائع الصيت «موت الإله» والذي ذُكر أول مرة في كتابه “العلم المرح” تبدو المقولة مألوفة لنا اليوم بطابعها العلماني، إلا أنه في زمن نيتشه عد هذا الإعلان حدثا مدوياً، لكن مغزاه كان أبعد من أن يكون توكيداً للفكر الإلحادي فبالرغم أن نيتشه كان ملحداً لكنه كان أبعد من أن يكون رائدا في الإلحاد الأوروبي، إذ أن تلكم التأملات كانت دلالتها تكمن في سوسيولجية الإعلان، كان نيتشه يعني أن حضورالرب الذي يضفي معاني للأشياء لم يعد له وجود في الحضارة الغربية، (فموت الإله ما هو إلا إسقاط لموت القيم والأخلاق والمثل العليا)، لكن إرجاع الأمور إلى أساس سوسيولوجي يكسبها صفة تضليلية، لأنه لا وجود لقيم محايدة بحسب نيتشه، فقد أطاح موت الإله بنظام القيم الغربي كاشفاً عن هوة سحيقة، فالقيم التي بتنا نعيش بها بدونه أمست خاوية فاقدة لأي معنى، ونحن منقادون بغير هدى سواء أدركنا هذا أم جهلناه. فما العمل؟
قد يتصور البعض أن موت الإله مسألة عادية، فيذهب المسيحيون المحافظون بادعاءاتهم أن عدم وجود إله يعني بالضرورة تلاشي القيم الأخلاقية، لكن هذه المزاعم قوبلت بالسخط من قبل الإنسانيين العلمانيين، فبحسب اعتقادهم أن أحكامنا الأخلاقية لا دخل لها بأي شكل بوجود الرب من عدمه، وقع هذا الاعتقاد الإلحادي في نفس نيتشه كان مرضياً حد التأكيد أنها إشارة أن موت الإله كان علامة على انتهاء القيم الأخلاقية كسمة موضوعية، لكنه اختلف معهم في عدم أخذ أزمة المعنى تلك كمدعاة للإيمان بالله، وبعدم اعتقاده بتوليد القيم ذاتياً لمعناها، بحيث نحكم أن اعتقادات شخص ما سليمة قياساً لمعتقدات شخص آخر، ويرى نيتشه أن للقيم قوة تزدهر بها، كمثل كل الأعمال الفنية والتي تكمن عظمتها في القدرة على تحريك دواخلنا وإثارة شتى العواطف فينا، للإعلام قوة أيضاً، لكن تلاعب وسائل الاعلام على الجماهير باللعب على أوتار العاطفة ليست مؤشراً على القوة التي تسمو بالقيم لأن معظم الناس ما هم إلا جزء من قطيع مسير، وكل ما هو متعلق بالقيم كمرجعية بالنسبة إليهم (بما فيهم الطبقة الأرستقراطية) ما هي إلا محاولة للتشبث بموضوعية القيم، لكن إذا وصلت القيم إلى نهايتها المحتومة وجب البحث عن مصدر جديدة فردي وجذري بعمق، إذ أن مبدأ نيتشه لطالما كان نخبويا يعلي من قيمة الأقوياء مؤمناً أنه لا مكان للضعفاء في هذا العالم، فقط الأقوياء من بوسعهم خلق القيم وبحسب نيتشه ففي العصور الغابرة كانت القيم تنتمي للأشخاص الذين ابتدعوها حقّاً، أقول لك يا أخي، إن عرفت أولم تعرف محنة شعب وبلده وسمائه وحدوده، فستحرز دون عناء قانوناً تغلبه به متبصراً فيما يجعله يتسلق هذا السلم صوب آماله.
لا بد أن تكون الأول دوماً وتتجاوز الآخرين: ولا ينبغي لروحك الغيورة أن تحبّ أحداً، عدا أن يكون صديقاً؛ ذلك ما كانت تخفق به روح اليوناني : وهكذا راح يسلك دربه إلى العظمة.
“كن وفيّا. ومن أجل وفائك، لتبذلْ دمك وشرفك في أكثر الأشياء ضرراً ومخاطرة”: بمثل هذه التعاليم استطاع شعب آخر أن يتغلب على نفسه، وفي التغلّب على نفسه على هذا النحو حَبِل وغدا مثقلاً بعظيم الآمال” (هكذا تكلم زرادشت، الكتاب الأول، 1883)
(الودعاء يرثون الأرض)
بهذا ففي العصور القديمة، كانت القوة التي من خلالها تعرف الناس إلى أنفسهم هي ما ساعدت على تشكيل قيمهم، إلى أن جاء ما أسماه نيتشه؛ التعقيد المتدهور للمسيحية حيث أضحى الضعف لب الفضائل لا القوة، تجلى ذلك في استلاهمهم للقول المأثور في الكتاب المقدس: (طوبى للودعاء فهم يرثون الأرض) إنجيل متى (5:5) . في الواقع، فإن الطبقة الكهنوتية الحاكمة لم تبح أو تمارس تعطشها للسلطة من خلال محق الوثنيين، وإنما بتحويل كل الغرائز الحيوانية التي هي مصدر فخر للإنسان إلى نزعة للفقر باعتباره تهذيباً للنفس، بتنسك البدن، وشعور لا يبارحك بالذنب، فمفاد رسالة الرب المعلق على الصليب هي المعاناة، الرسالة البائنة إذاً هي أن الفضيلة لا تتجلى في الرجال العظماء الدنيويين، بل فيما يتطلع إلى ما هو أعلى من الدنيا، على عكس ذلك فإن الكهنة بسلطتهم ظهروا منتصرين على ما ميزهم.
عُد هذا النصر بمثابة الكارثة المحضة لنيتشه لتحققه من خلال إنكار الذات لا على الرغبة في الحياة.
يعد موت الإله نقطة تحول للمسيحية حيث تداعت بعده كل القيم التي بنيت على أساس أن الضعف هو جوهر القيم، لم يعد هناك أي بديل لها ولا يوجد ما يمنع إنسان الحداثة من أن يحل أي شيء محلها، أضحت نظرتهم للقيم أنها مجوعة مبعثرة غير متجانسة قادمة من مصادر عديدة، أطلق نيتشه على هذه القيم: “البقرة متعددة الألوان” تتجلى تعدد سبل الإيمان في الغرب اليوم، كما تنبأ نيتشه، باتت القيم كالسلع الاستهلاكية تم تنسيقها ومزجها، هذه السخافة لم تؤد إلا إلى وهن القوة لكن كيف ومتى قد تتمكن إرادة الإنسان الحرة أن تحكم استناداً على مجموعة جديدة من القيم؟ كانت هذه معضلة نيتشه والتي أضحت بعدها معضلة الحداثة كما تنبأ سلفاً.
على غرار أعظم الفلاسفة، سعى نيتشه بجهود حثيثة لإيجاد حل لهذه المعضلة والتي تمثل في خلق ما أطلق عليه: “الرجل الخارق” أو لنكون أكثر دقة “الحاكم المطلق” لأن الإنسان العادي ليس بمقدوره إبداع قيمه الخاصة فقد أثبتت ذاته عجزها عن ذلك، كرامته الوحيدة هي وسعه الارتقاء لمكانة أعلى “ما القرد بالنسبة للإنسان إلا موضوع خجل أليم. كذا يجب أن يكون الإنسان بالنسبة للإنسان الأعلى؛ موضوع خجل أليم” فالإنسان المتفوق هو الأسمى من بين كل الأفراد المتنوعة، بثقته المطلقة في قوته والتي من خلال توكيدها سرعان ما سيكون بمقدور قيم جديدة لم تخلق قبلاً أن ترى النور، قيم لا يخلقها البشر ولا تنبع أهميتها لكونها من عند الله، ولكن لأول مرة تكمن قوتها وفرديتها من الشخص الذي يخلقها لكن هذه القيم يجب أن تبتكر لا أن يتم تطويرها كأنها وجدت قبلاً.
لم يزعم نيتشه معرفته بهيئة وطبيعة ذلك الرجل الخارق، لكنه أعتقد أنه وإن كان لديه أقران وإخوة مجازيين يجب أن يظل مستقلاً بفكره وإرادته، في المستقبل الواعد، لذا أغلب الدارسين لنيتشه لم يخفوا امتعاضهم من مفهوم “الرجل المتفوق” الذي ابتدعه معلنين أنها جريمة، إذ وظفته النازية يوماً في صراع العرق الأنقى بقصد إظهار تفوق العرق النازي على غيره من البشر، رغم أن نيتشه لم يخف يوماً كراهيته ومعاداته للسامية والتفوق العنصري والفكر النازي، ومن المبغض جداً لنيتشه توهم إنسان الحداثة أنه إذا استطاع أن يكون نفسه وحسب، ليتفوق بعدها على الإرث الإبداعي لأمم بكاملها ويكون السوبرمان عبارة عن أضغاث أحلام، فأغلب البشر ليسو مهيئين لهذه المهمة، حتى وإن هتف الحشد (جميعنا أفراد _مونتي بايثون والكأس المقدسة) إن أي إنسان قد يحاول العيش من خلال قيمه الخاصة لكن الحقيقة عند نيتشه أن الإنسان العادي لا يستطيع ابتداع قيمه الخاصة وأن قيمه مستمدة من تأثير الحداثة وبشكل فطري.
اعتقد أن نيتشه ما انفك من تقديم لائحة مطولة من الاتهامات للحداثة، بالطبع قد يكون نيتشه مخطئا في أن الفضيلة هي نتاج لإرادة القوة، لكني قد اتفق معه في أن الفرد هو من يخلق فضيلته وإن اختلفت معه في أن من يخلق الفضيلة لا بد أن يكون السوبرمان، ناهيك عن اعتقادي أن بعضاً من القيم قد تفوق قدرة الإنسان على خلقها، لذا فإني في هذا الصدد أجدني أركن إلى كانط؛ فالإنسان كفرد متعدد الثقافات في زمن الحداثة لا يستطيع خلق القيم، لكن يمكن الاحتفاظ للأفراد بصلاحية التشريع، بعيدا عن شعور البعض بأنهم خارقون بالنسبة للآخرين.
لماذا مازال إنسان الحداثة معذبا إذاً؟
لا أدري، لكن من غير المفاجئ اعتبار نيتشه أعظم فلاسفة القرن العشرين..
*المقال على موقع ( (Philosophy nowعام 2012م.
** إيريك والتر، مدرس الفلسفة بجامعة لونج آيلاند من عام 1967م، وحاصل على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ييل.
*** سلمى نبيل، باحثة ومترجمة.