يمثل كتاب “أضواء على الحركة النسوية السودانية: النشأة والتيارات والتحالفات” لمؤلفَيه الدكتور أحمد محمد أحمد إسماعيل والدكتور وليد الطيب عبدالقادر مورداً مهماً لفهم طبيعة الحركات النسوية في السودان فالكتاب – كاسمه – أعطى إضاءات كافية لمن أراد أن يفهم منشأ الحركات النسوية في السودان والظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تمرحلت من خلالها وإلى ما تدعو هذه الحركات بمختلف أشكالها وتياراتها. ومما يميز الكتاب اهتمامه بالتكوين الثقافي والاجتماعي والديني والسياسي الذي صبغ المجتمع السوداني في الحقب المختلفة وكيفية انعكاس ذلك على تفاعله مع الحركات النسوية سلباً وإيجاباً، كما يمثل الكتاب دراسة تحليلية ونقدية جيدة للحركات النسوية في السودان من منظور إسلامي.
نُشر الكتاب عام 1430هـ – 2009 م بواسطة مجلة البيان ضمن سلسلة تصدر من مركز البحوث والدراسات ويقع الكتاب فيما يقارب الـ 300 صفحة.
يأتي الكتاب في أربعة فصول يتحدث الفصل الأول عن “بداية الحركة النسوية في السودان” وقد تناولها في ثلاث مراحل: مرحلة بداية التعليم الأهلي ومرحلة ظهور التنظيمات النسوية ومرحلة تنظيمات المجتمع المدني والتحالف مع المنظمات الدولية، ثم يتحدث الكتاب في الفصل الثاني عن “تيارات الحركة النسوية” آخذاً في الاعتبار التيارات النسوية العالمية والتيارات التي ظهرت في السودان، ثم ينتقل في الفصل الثالث للحديث عن “قضايا الحركة النسوية السودانية” مستوعباً لها في إطار ثقافي تربوي وإطار اجتماعي وإطار سياسي قانوني وتضمَّن هذا الفصل أيضاً شرحًا لمفهوم الجندر، ثم يأتي الفصل الأخير طارحاً رؤية لمواجهة التمدد النسوي تحت عنوان “مواجهة الحركة النسوية وبناء مسار جديد” وفيما يلي عرض لأبرز الأفكار التي ناقشها الكتاب.
في الفصل الأول من الكتاب يزعم الكاتب أن تعليم البنات هو نقطة الانطلاق لحركة تحرير المرأة السودانية وليس المقصود هنا التعليم في حد ذاته وإنما آلياته ووسائله التي جرى بها من هيكلة تعليمية ومناهج، فالمعلوم أن أول المدارس التي أنشئت لتعليم البنات هي مدارس الإرساليات وقد أجمع السودانيون آنذاك – عدا فئة الرقيق المحررين – على رفض هذا النموذج من التعليم الذي أض نموذج التعليم العلماني الذي اتى به المستعمر، ارتاد هذه المدارس عدد من بنات الرقيق المحرر وخريجات هذه المدارس هن من أصبحن معلمات للجيل الجديد وكذلك هن من تصدرن حركة تحرير المرأة في السودان منهم د. خالدة زاهر الساداتي وهي من أوائل النساء اللاتي التحقن بالحزب الشيوعي السوداني ومن مؤسسات الاتحاد النسائي السوداني وأ. فاطمة أحمد إبراهيم رئيسة الاتحاد النسائي وعضو اللجنة المركزية بالحزب الشيوعي وصاحبة مجلة (صوت المرأة)، والسيدة تكوي سركسيان أول صحفية سودانية ومؤسسة رابطة النسوية بالخرطوم بحري وأصدرت مجلة (بنت الوادي) أول مجلة نسائية بالسودان.
مع زيادة عدد هذه المدارس والطالبات المتخرجات منها زادت نسبة التحاق البنات بالجامعات وأصبحت تتعدى أحياناً نسبة الذكور وأصبحت النساء تتلقى نفس التعليم الذي يتلقاه الرجال، من هنا بدأت مطالبتهن بالمساواة في الأجور والتدرج الوظيفي والحقوق المعاشية والتمثيل النقابي.
أسس د. بابكر بدري أول مدرسة أولية نظامية للبنات في مدينة رفاعة عام 1907 وقد تطورت المدرسة التي أنشأها بابكر بدري حتى ضمت مدرسة ثانوية عام 1935 وقد باركت الحكومة البريطانية هذا التطور، كيف لا وقد انتهجت هذه المدارس النهج الغربي في تعليم البنات، ثم تأسست كلية الأحفاد الجامعية عام 1966 والتي أخذت في عاتقها الدعوة إلى الجندر وتغريب المرأة السودانية، ويجد الكاتب صعوبة في تفسير اتخاذ بابكر بدري لهذه الوجهة في تعليم البنات رغم كونه قد جاهد في صفوف المهدية الإسلامية سابقاً.
شكلت خريجات مدرسة بابكر بدري وخريجات المدارس النظامية التي أنشأها المستعمر وخريجات مدارس الإرسالية اللبنة الأولى لحركة تحرير المرأة في السودان والتي لم تصطبغ في البداية بالرؤى الفكرية والعلمانية والماركسية وإنما كانت مطالبها تدور حول التعليم والتمثيل النقابي، ثم مع تنامي حركة اليسار التي دخلت السودان من تلامذة اليهودي (هنري كورييل) بدأ ارتباط الحركة النسوية بالفكر اليساري حيث أنشئت العديد من الكيانات النسوية تحت رعاية الحركة السودانية للتحرر الوطني – الحزب الشيوعي لاحقاً – وإلى جانب اليسار السوداني كان للاستعمار البريطاني دوره في إنشاء بعض الكيانات النسوية.
ومن الكيانات التي لعبت دوراً مهماً في تشكيل ظهور الحركات النسوية في السودان الاتحاد النسائي السوداني الذي كان للناشطات اليساريات الدور الأقوى فيه وفي تحديد توجهاته ورؤيته، وتمثلت مطالبه في الحقووتمثلت مطالبه في الحقي ورؤيته..ق الآتية: حق التعليم وحق الترشيح والانتخاب والمساواة في الأجور ورفْض جعل مجال المرأة الأساسي هو البيت وتربية الأبناء، تبعاً ساسي هو البيت وتربية الأبناء.. لذلك فقد وجد الاتحاد مقاومة من قيادات المجتمع السوداني فقد عارضه علماء الشريعة وعارضه الإخوان المسلمون وعارضه كذلك آل المهدي. وقد واجه الاتحاد النسائي السوداني ثلاثة انقسامات أبرزها الانقسام الذي قادته أ. ثريا أمبابي وأ. سعاد الفاتح والذي نتج عنه تكوين “الجبهة النسائية” التي رعاها الإخوان المسلمون، وقد كان انقساماً أيدولوجياً نتيجة لرفض الاتجاه اليساري الذي سيطر على الاتحاد النسائي، فقد اخترق الحزب الشيوعي السوداني الاتحاد النسائي بواسطة التكوين الذي أنشأه للمرأة وهو “رابطة المرأة” وعمل على توجيه نشاط الاتحاد تبعاً لرؤيته الماركسية للمرأة حيث يرى الحزب أن عدم تملك المرأة لوسائل الإنتاج والكسب المادي هو السبب الأساسي في هيمنة الذكر عليها يساعد في ذلك منظومة القيم الأخلاقية التي تُعضد هذه الهيمنة. من جانب آخر فقد عملت الحركة الإسلامية على مجابهة التحرير العلماني للمرأة عن طريق تكوين “الجبهة النسائية”.
دخلت الحركة النسوية في السودان طوراً جديداً عند ظهور تيارات المجتمع المدني التي ارتبط بها مصطلح “عولمة المرأة” فضِمن سعي أمريكا لتغريب العالم وإبادة كافة الثقافات المغايرة للثقافة الأمريكية شجعت المنظمات الدولية الناشطات النسويات على تكوين منظمات مدنية ودعمتهن في ذلك فكرياً ومادياً. تعمل هذه المنظمات في مجالات عدة منها: محاربة خفاض الإناث وتأهيل المرأة الريفية ونشر مفاهيم الصحة الإنجابية واستعمال العوازل الجنسية تحت ذريعة مكافحة الإيدز، وكذلك إشاعة ثقافة الجندر ومحاربة العنف ضد المرأة والقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة وغيرها. من هذه المنظمات والهيئات: جمعية بابكر بدري العلمية للدراسات النسوية، ومركز الجندر للبحوث والدراسات، وجامعة الأحفاد للبنات. وجاء في بيان للسفارة الأمريكية أفصحت فيه عن تقديمها مبلغ 35,000 دولار إعانة شهرية لإحدى كبريات الجمعيات النسوية في السودان، كما أن مشروع “اجتثاث العادات الضارة بصحة الأسرة” الذي تتبناه جمعية بابكر بدري العلمية للدراسات النسوية تموله منظمة أمريكية هي منظمة (الرفاهية العامة Public welfare). ومن الملاحظ السعي الحثيث لمنظمات تيار المجتمع المدني للضغط على الحكومة السودانية من أجل التوقيع على اتفاقية سيداو بعد رفض الحكومة التوقيع عليها، والمطَّلع على هذه الاتفاقية يرى كيفية قفزها على الأخلاق وعلى الاختلاف في الوظائف الفسيولوجية بين الرجل والمرأة وبالتالي الاختلاف في المجال التكليفي لكل منها كما تجعل كل تمييز ضد المرأة غير مقبول حتى وإن كان تمييزاً حسناً وفي صالحها، وكذلك تُصور العلاقة بين الرجل والمرأة كعلاقة صراع مستمر ليس فيها تكامل ولا رحمة ولا مودة، وتُعزز بذلك الفردانية عند المرأة، ضاربة بعرض الحائط مفاهيم أساسية في الإسلام كالعدل والقوامة وبعض الأسس الشرعية التي تصيغ العلاقة بين الرجل والمرأة .
في الفصل الثاني يُعدِّد الكاتب تيارات الحركة النسوية فعالمياً هنالك النسوية الليبرالية التي تتخذ من مبادئ الثورة الفرنسية “الحرية – الإخاء – المساواة” أسساً لها، والنسوية الماركسية التي تعُد نظام قوامة الرجل على الأسرة شكلاً من أشكال الإقطاع المرفوض عندهم والنسوية الراديكالية التي تسعى لهدم كافة الفوارق بين الجنسين كما تدعو لإقصاء الرجال والعيش في مجتمعات نسائية مستقلة، وكلهم ينطلقون من مفهوم واحد هو رفض ما يسمونه “نظام الهيمنة الذكورية”، أما في السودان فقد قسّم الكاتب تيارات الحركة النسوية إلى أربعة تيارات، التيار الأول هو تيار اليسار التقليدي وأبرز واجهة له هي الاتحاد النسائي بمطالبه التي ذكرناها سابقاً. والتيار الثاني هو التيار الأنثوي (الفيمنزم) والذي يتبنى مواقف واستراتيجيات متطرفة لمحاربة ما يسمونه بالاضطهاد الذكوري،رز واجهة له هو الإتحاد النسا ورائدات تيار الفيمنزم رغم أطروحاتهن المخالفة لأساسيات ثابتة في الدين يتحججن بأنهن لا يرفضن الدين وإنما الفكر الأصولي الديني. والجدير بالذكر أن اليسار التقليدي لم يوافق قط التيار الأنثوي حيث يهدف تيار اليسار التقليدي إلى تمكين المرأة سياسياً ونقابياً في المقام الأول أما التيار الأنثوي فيذهب – كما تقول فاطمة أحمد إبراهيم – إلى حصر قضية المرأة في الجنس مهملاً تمكينها في مواطن اتخاذ القرار. وذكر الكاتب السجال الذي جرى بهذا الشأن بين فاطمة أحمد إبراهيم رئيسة الاتحاد النسائي وسوندرا هيل الناشطة في التيار الأنثوي.
والتيار الثالث من تيارات الحركة النسوية في السودان هو تيار منظمات المجتمع المدني (النسوية الليبرالية) الذي يشكل هو والتيار الأنثوي النسوية الجديدة. أما التيار الرابع فهو تيار المدرسة العصرية وهو تيار يُحسب على الفكر الإسلامي رغم تأثره بالمدارس الغربية، حيث يدعو إلى تأسيس خطاب فقهي إسلامي يتماشى مع متطلبات العصر الحديث، ويشمل مدرستين: مدرسة تعمل على تأويل النصوص وتحميلها ما لا تحتمل من الأقوال ومدرسة مقاصدية تدَّعي مراعاة مقاصد الشريعة العامة في الأحكام حتى وإن خالفت بذلك نص شرعي، يمثل هذا التيار العصراني كل من الصادق المهدي (المدرسة المقاصدية) وحسن الترابي (يجمع بين المدرستين) حيث يشمل مشروعهم التجديدي آراء كثيرة متعلقة بقضايا المرأة يخالفون بها الأحكام الشرعية، وتسير الناشطات النسويات في حزبهما على نهجهما.
تناول الفصل الثالث من الكتاب قضايا الحركات النسوية فمن حيث الإطار الثقافي التربوي وجه الأنثويون انتقادهم لمناهج التعليم بكونها تخاطب الذكور دون الإناث أو أنها تحصر دور الإناث في أعمال البيت. كما انتقدوا الحجاب بوصفه عائقاً لنضال المرأة في طريق تحسين وضعها، وبعضهم يتعلل بإحلاله محل الثوب السوداني الذي يمثل الموروث الثقافي للسودان، رغم أن ممّن يتبنين هذا القول لا يرتدين الثوب السوداني بالأساس بل يفضلن شكل اللبس الغربي عليه!
أما اجتماعياً فقد تمثلت مرتكزات هذه الحركات في محاربة العادات الضارة مثل مشروع اجتثاث العادات الضارة بصحة الأسرة، والذي اتخذت فيه من ختان الإناث معركة ضد العلماء والهيئات الشرعية، وعملت على تلبيس الحقائق بعدم التفريق بين الخفاض السني والخفاض الفرعوني الذي ينكره حتى العلماء. وتعمل هذه الحركات أيضاً على الإفساد من خلال برامج الصحة الإنجابية وبرامج مكافحة الإيدز، وبالنظر إلى أهداف وآليات مشروع الصحة الإنجابية يتضح غرضه في تسويغ العلاقات خارج إطار الزوجية وغرس مفاهيم مثل الأسرة غير النمطية في المجتمع. وسياسياً طالبت الحركات النسوية بأن يُسمح للمرأة بتولي الوظائف العامة والسلطانية كافة كما طالبت بتعديل قوانين الأحوال الشخصية المتعلقة بعقد الزواج وتعدد الزوجات وبيت الطاعة وسفر المرأة والمساواة في الميراث وتعديل وثيقة الزواج.
ناقش الكتاب أيضاً مفهوم الجندر، وتحت عنوان “الجندر.. غموض المصطلح وفساد المفهوم” حيث أكد المؤلفان على عدم وجود ترجمة عربية متفق عليها لمصطلح الجندر والملاحظ أن معناه في السياق الغربي يدور حول إنكار العلاقة بين الهوية الجندرية والطبيعة العضوية الفسيولوجية على غير ما يروجه دعاة الجندر في العالم الإسلامي أن المصطلح يعني تحقيق مساواة المرأة بالرجل والسعي لتحرير المرأة والنهوض بها.
في الفصل الرابع والأخير قدّم المؤلفان مقترحات لمجابهة الحركة النسوية وذلك بإعداد رؤية شاملة لقضايا المرأة من منظور إسلامي والعمل على تأهيل المرأة المسلمة في السودان وإنشاء مراكز متخصصة في الدراسات النسوية والتشبيك بين القطاعات النسوية في الحركات الإسلامية والمؤسسات المختلفة وإقامة المؤتمرات وورش العمل واتخاذ المنابر الإعلامية والرصد السنوي للتغيرات الطارئة في قضايا المرأة.
وختاماً فلا يستنكر أحد أن تطالب المرأة بحقوقها مطلقاً فللمرأة حقوق محفوظة شرعها الله لها ولكن الذي ننكره أن يتم توجيه بعض الحالات الخاصة في المجتمع لتخدم رؤية فكرية معينة متحاملة أصلاً على كل ما هو موروث، فتُصر بذلك على القفز على التكوين الديني والاجتماعي والثقافي للمجتمع السوداني برفع بعض الشعارات الرنانة التي لا تصمد كثيراً أمام المسائلة الموضوعية لها.