الفقيه في زمن الوباء
لقد كان للوباء الحالي آثار واضحة وكبيرة على البشرية, وجعل من أحداثه بداية تحولات كبرى في حياتهم, كما أنه استطاع أن يخرج كثيرا من التساؤلات إلى دائرة الضوء، ومن تلك التساؤلات ما الذي يمكن أن يقدمه الدين بكافة مستوياته العقائدية والتعبدية والسلوكية، وما الذي يمكن أن يقدمه علماء الشريعة ؟ وهل الناس بحاجة إليهم حتى, في وقت تجلت فيه الحاجة الماسة إلى العلوم الطبية ومخترعاتها لإنقاذ البشرية؟
وفي هذا المقال أحاول أن أجيب عن بعض هذه التساؤلات بالبحث عن دور الفقيه في ذلك.
ومن المستحسن أن نبدأ بسؤال من هو الفقيه المقصود؟
الفقيه -بالنظر إلى الفقه باعتباره علما تصوريا- يُراد به الشخص الحائز على ملكة الفقه، وعنده مُكنة من العلوم التي تمكنه من فهم الأدلة التفصيلية وتصور وقائع المكلفين وتنزيل الأحكام المستقاة من تلك الأدلة على الوقائع.
وعلى هذا التبيين يكون المقصود بالفقه ملكة الفقيه على إيضاح المشكلات، ومعرفة المقايسات، والقدرة على فهم الدلالات واستنباطها واستنطاق الأدلة في الواقع، بخلاف الناقل لمسائل الفقه الجامع لها، المفتي بما نقله وضبطه عن غيره.
قال ابن تيمية : (لكن هؤلاء ليسوا في الحقيقة فقهاء في الدين، بل هم نقلة لكلام بعض العلماء ومذهبه، والفقه لا يكون إلا بفهم الأدلة الشرعية بأدلتها السمعية الثبوتية من الكتاب والسنة والإجماع نصا واستنباطا) الاستقامة/ ابن تيمية (ص61).
وقد لا حظ بعض العلماء ذلك المعنى فعرفوا الفقه بأنه:
استنباط حكم المشكل من الواضح، وقيل في تعريفه أيضا: الإصابة والوقوف على المعنى الخفي الذي يتعلق به الحكم
وتبقى قضية القدر المعلوم من العلوم التى يحصلها الفقيه لينال ذلك اللقب. وإن كان العلماء ذكروا مجموعة من العلوم ينبغي توفرها في الفقيه لكي يقوم بدوره التصوري والتنزيلي ولكن يبقى ذلك الاشتراط من باب التحوط والاحتراز من الوقوع في الخطأ، وهي بلا شك بقدر الاستزادة منها تزداد ملكة الفقه عند الفقيه.
ولكن يبقى هناك قدر من المعرفة بالعلوم تمكن الناظر في الفقه من فهمه والتعاطي معه وتلحقه بالفقهاء وفي ذلك يقول الشوكاني: (والذي أدين الله به أنه لا رخصة لمن علم من لغة العرب ما يفهم به كتاب الله بعد أن يقيم لسانه بشيء من علم النحو والصرف وشطر من مهمات كليات أصول الفقه في ترك العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيز ثم إذا انضم إلى ذلك الاطلاع على كتب السنة المطهرة التي جمعها الأئمة المعتبرون وعمل بها المتقدمون والمتأخرون كالصحيحين وما يلتحق بهما مما التزم فيه مصنفوه الصحة أو جمعوا فيه بين الصحيح وغيره مع البيان لما هو صحيح ولما هو حسن ولما هو ضعيف وجب العمل بما كان كذلك من السنة ) إلى أن يقول :
(فالحاصل أن من بلغ في العلم إلى رتبة يفهم بها تراكيب كتاب الله ويرجح بها بين ما ورد مختلفا من تفسير السلف الصالح ويهتدي به إلى كتب السنة التي يعرف بها ما هو صحيح وما ليس بصحيح فهو مجتهد) البدر الطالع (2/79)
دور الفقه في التعامل مع الوباء:
قد يتوهم البعض أن الفقه لا علاقة له بهذا الحال من الوباء، ولا يمكن أن يساهم بشيء من الحلول أو الإجراءات التي تلعب دورا هاما في التعامل معه ومحاصرته.
وقد يكون سبب ذلك التوهم بسبب فكرة فلسفية لا تجعل لكل أمر ديني دورا في الحياة الإنسانية، والحكم على كل معطيات الدين من حقائق بعدم القبول وإخراجها من دائرة المعرفة الحقيقية باعتبار أنها لا تخضع لقوانين العلوم التجريبية، ولا تجري على أنساقها، ولا تخضع لمناهجها، ولا تتحدث بلغتها.
إن الفرض القائم على أساس أن الطريق الأوحد للمعرفة الإنسانية والمفسر الوحيد للظواهر الإنسانية هو العلم التجريبي، فرضية لا تقوى العلوم التجريبية نفسها على إثباتها، إلا حالة من الوثوقية والتوهم في ذلك.
وهو زعم خاطئ تكذبه الحقائق والمعارف العقلانية التي قدمتها مجالات أخرى منها الدين، كما أنه- أي الدين- قدم وساهم كثيرا في تطور العلوم التجريبية نفسها، وقد عارض عدد من الفلاسفة اعتبار العلم الطبيعي النمط المعرفي الوحيد منهم لاري لودان فيقول:
(إن قابلية تطبيق نموذج حل المشكلات على النظم المعرفية غير العلمية له تضمينات ليس بالنسبة لكتابة تاريخ هذه النظم المعرفية فحسب، بل أيضا بالنسبة لتضمين وضعها المعرفي، فكثيرا ما يزعم البعض أن العلوم فقط هي التي تكون تقدمية وتراكمية، بينما مجالات البحث الأخرى تقدم تغييرات في أسلوبها وفي نمطها مما لا يمكن وصفها بأي معنى على أنها تقدمية.
وأحيانا تطرح المقارنة بشكل مختلف فيقال أحيانا أننا في العلوم يمكن أن نكتشف متى تكون افتراضاتها خاطئة , إلا أننا في النظم الإنسانية لا يمكن أن نكتشف ذلك, وكثيرا ما يزعم أن العلوم تقوم بتصويب ذاتها، لكن غير العلوم تفتقد هذه الصفة المهمة، فكيفما طرح هذا التمييز (تقدمي/ غير تقدمي، عقلاني/ غير عقلاني، إمبيريقي/ غير أمبيريقي, ممكن تكذيبه/ غير قابل للتكذيب) فذلك التمييز لن يصمد أمام الفحص التفصيلي.
إن بعض النظم المعرفية مثل الميتافيزيقا، واللاهوت، وحتى النقد الأدبي تعرض كل المقومات التي تحتاج إليها لعمل تقييمات عقلية للمزايا النسبية للإيديولوجيا المتنافسة في إطار هذه النظم وغير العلوم، مثلها مثل العلوم يوجد لديها كل ما يوجد تماما في العلوم، توجد مشكلات إمبيريقية وتصورية، ولكل منها معاييرها لتقييم الكفاءة في حلول المشكلات، ويمكن توضيح أن كلا منها يحدث تقدما جوهريا في مراحل معينة من مراحل تطورها التاريخي) التقدم ومشكلاته- نحو نظرية عن النمو العلمي/ لاري لودان (220-221)
إن حالة الفصام بين العلم والدين هي التي أوقعت الكثيرين في التهوين من شأن العلوم الدينية والتشريعات الفقهية في وضع حلول للمشكلات الإنسانية أو على الأقل المساهمة فيها.
يظل العلم الشرعي والتكييف الفقهي يقدم تصوراته مساهما في حل مشكلات الوباء كما سيأتي، ويشارك تعاليم الدين الحنيف الأخرى التي لا تهون من العلم والبحث التجريبي وإنما تقويه وتعززه وهو ما يؤكده ألبرت آنيشتاين بقوله:
(أؤكد أن الشعور الديني الكوني من أنبل وأقوى الحوافز على البحث العلمي، إن الذين يدركون مدى الجهود الهائلة وفوق كل شيء التفرغ التام الذي لولاه لا يمكن أن يتحقق أي عمل رائد في العلم النظري هم وحدهم الذين يقدرون مدى قوة الشعور الذي يصدر عنه وحده مثل هذا العمل ومهما كان بعيدا عن واقع الحياة المباشرة فما أروع الإيمان بمعقولية الكون، وما أحر الاشتياق إلى الإلمام بالعقل الذي يشير إليه ذلك الإيمان وذلك الاشتياق اللذان اكتوى بنارهما كبلر ونيوتن واستمدا منها الطاقة الهائلة التي استوجبها بحثهما المتفرغ لعدة أعوام عن أسس ميكانيكا الأجرام السماوية.
الذين لا يعرفون البحث العلمي إلا عن طريق نتائجه العملية يقعون بسهولة فريسة فهم زائف لعقلية الذين …._ إلى أن يقول _ ما ألهم هؤلاء العلماء ومنحهم القوة أن يظلوا متشبسين بأهدافهم رغم الفشل المتكرر إنه الشعور الديني الكوني الذي أعطى أمثال هؤلاء الرجال مثل تلك القوة، ولقد قال بحق أحد الكتاب المعاصرين أن العاملين بجد في الحقل العلمي هم وحدهم في هذا العصر المادي الرجال عميقوا التدين)
أفكار وآراء/ ألبرت آنشتاين/ ترجمة د. رمسيس شحاتة (244-245)
إن الحقائق الإيمانية طالما جعلت الكون والوجود محل النظر والتفكر، والعمل والكسب، وميدانا لتحقق المعرفة والإيمان، ودعت للتشوف إلى معرفة القوانين والأسرار بدون يأس ولا حجر قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) سورة العنكبوت (20-21)
إن هذا المعنى يعرضه العالم محمد عبد الله دراز بصورة رائعة في معرض حديثه عن الدين وطبيعته فيقول:
(هذا الترقب والانتظار في مزيج من الأمل والحذر أمام دولاب الحوادث، هو إحدى الظواهر العامة التي نلاحظها في نفسية المتدين، ولا نجدها إلا في نفسية المتدين (أو المؤمن بإرادة مهيمنة على الطبيعة) ذلك أن الطبيعيين حين يرون ترابط الأشياء وتتابعها في نظام مطرد، يقف بهم النظر في هذه النظم عند حد العادة الجارية، فيطمئنون الاطمئنان كله إلى استقرارها ودوامها، وييأسون اليأس التام من تحولها وانفصامها، فهم أبدا في أحد طرفين متباعدين: إما أمن غافل ، وإما يأس قاتل، أما العقيدة الدينية فإنها لا تخضع لسياسة الأمر الواقع، بل تنفذ إلى بواطن الأمور وأعماقها، فتقيس الوجود بمقاييس العقل، وتزنه بموازين الإمكان، وبذلك يتكشف لها الكون عن حقيقته، فلا ترى في نظامه ضرورة ذاتية، ولا في تبدل هذا النظام استحالة ذاتية، بل ترى عليه طابع الصنعة الموضوعة، وأثر الترتيب المقصود ، وترى أمر بقائه أو تطوره رهينا بالإرادة التي وضعت هذا النظام وحفظته، لأن من استطاع أن يربط السلسلة، استطاع أن يفصمها)
الدين- بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان/ د.محمد عبد الله دراز (ص50)
فحقائق الدين تعطي الإنسان يقينا وتشوفا لا تحده التجربة التي قد تزعم اطرادا لبعض الأمور أو يقينا قطعيا بل ذلك حدود ما وصلنا إليه كما يقول الله سبحانه: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الإسراء (85) فإن الإخبار بمحدودية العلم الإنساني لا يعني الاستسلام والاكتفاء بذلك، بل التشوف للاستزادة.
يقرر كارل بوبر في كتابه منطق البحث العلمي ما تقدم ذكره فيقول: (ليس في الأساس التجريبي للعلم الموضوعي أي شيء مطلق، فالعلم لا ينبني على أساس من الصخر، وإنما إن صح التعبير على أرض موحلة يقيم عليها نظرياته الجسورة، إنه بناء على أعمدة مغروسة في الوحل من علٍ ولا يتوقف غمسها عند حد طبيعي معطى سلفا، ولا يتوقف السبر لأن الأعمدة قد وصلت إلى طبقة صلبة واصطدمت بها، وإنما لأننا نكتفي بالعمق الذي وصلت إليه، لأننا نأمل أنها تستطيع تحمل البنية في الوقت الحاضر على الأقل)
منطق البحث العلمي/ كارل بوبر ترجمة: محمد البغدادي ص (139-140).
وفي هذا الاتجاه من دور الدين والفقه في بعث روح التشوف في الكشف العلمي وتحقيق المعرفة بلا يأس نجد حديث النبي صلى الله عليه وسلم “إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءٌ جَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ وَعَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ”
“تداووا عباد الله فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاء إِلَّا السام والهرم” ثم أضفنا إلى تلك النصوص النبوية الحكم الفقهي المتردد بين استحباب ووجوب التداوي لاسيما الأمراض التي يترتب عليه تلف الأنفس أو الإضرار بها، فإنك ستجد نفسك أمام حكم تكليفي آخر وهو استحباب أوجوب البحث عن أسباب التداوي من باب استحباب أو وجوب الوسائل وبالتالي فإن المسلم لابد أن يكون مجتهدا في تحصيل ذلك.
قال ابن حجر في شرحه للأحاديث المذكورة : (والحاصل أن حصول الشفاء بالدواء إنما هو كدفع الجوع بالأكل والعطش بالشرب وهو ينجع في ذلك في الغالب وقد يتخلف لمانع والله أعلم) فتح الباري / ابن حجر (10/136)