عند ما نتتبع حديث الفقهاء علماء الشريعة عن الأوبئة والطاعون على وجه الخصوص سنجد كما معرفيا هائلا عن ذلك في كتبهم الفقهية والحديثية ، وسنجدهم يتحدثون عن تعريف الطاعون وأسبابه بما توفر لهم من معلومات، وعن حال الناس في زمن الاوبئة والطواعين، وعن الوصايا التي يقدمونها من الوقاية من الوباء، وطرق دفعه بعد وقوعه.
[ ويمكن القول بأن علماء المسلمين أولوا اهتماما كبيرا بالحديث عن مرض الطاعون، وتفصيل الكلام عنه سواء كان ذلك ضمن شروحهم على كتب الحديث والسنن، أو بالتصنيف المستقل فيه، بل إن النصوص التي وصلتنا من تراثنا الإسلامي عن الطاعون في كلام الفقهاء والمحدثين تفوق نصوص الأطباء المتقدمين عنه، إذ لا نجد عند هؤلاء سوى إشارات متواضعة لا تقاس بتفصيل العلماء من أهل الفقه والحديث إطلاقا]¹
ولعل ذلك الاهتمام المبكر بالوباء سببه جملة الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فمنذ دخول المسلمين المهاجرين إلى المدينة وجدوها بلدا موبوءة بالحمى، وصدرت منهم تفاعلات مع ذلك وصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم أدعية وتوجيهات كانت هي النواة الأولى لذلك الاهتمام بالأوبئة والطواعين لدى علماء الشريعة.
فقد جاء عن عائشة رضي الله عنها: “قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وكان بطحان يجري نجلا أي ماء آجنًا” (البخاري)
فمن الملاحظ أن عائشة رضي الله عنها تذكر الوباء وتشير إلى السبب فتقول (وكان بطحان يجري نجلا ) وقد كان وادي بطحان في جنوب المدينة يجري طول العام وعلى مدار السنة بالمياه المتغيرة المتعفنة التي تتركد فيه كثيراً، فتتعفن وتتفشى الأمراض، وتكثر الحميات، وينتشر الوباء.
وقد كانت الملاحظات التي ذكرتها السيدة عائشة رضي الله عنها ، هي التفسيرات المتوفرة للوباء، والقاعدة الأولى التي عرفتها البشرية وانبنى عليها بعد ذلك علم الأوبئة.
وقد أشار إلى ذلك عالم الأوبئة رودولفو ساراتشي بأن منهج الإدراك والملاحظة في فهم أسباب المرض هو أحد المقدمات الواضحة لعلم الوبائيات، وعزا ذلك إلى أبقراط وينقل عنه قوله:
(على من يرغب في البحث الصحيح في عالم الطب أن يفعل ما يلي: ينظر بعين الاعتبار في المقام الأول إلى فصول السنة، والآثار التي يحدثها كل منها؛ ثم بعدها إلى الرياح، الساخنة والباردة، لا سيما تلك الشائعة في كافة الأمصار والبلدان، ثم إلى تلك الخاصة بكل موضع من العالم على حدة. وعلى ذات الوتيرة، عندما يفد غريب على مدينة ما، فإن عليه أن يتفكر في وضعها، وموقعها بالنسبة للرياح وشروق الشمس؛ إذ إن تأثير هذا لا يكون واحدا إذا كانت تقع في الشمال أو في الجنوب، أو في اتجاه شروق الشمس أو غروبها. وعلى المرء أن يتفكر بمزيد من الانتباه في المياه التي يستخدمها سكان المدينة؛ وهل هي مياه مستنقعات ويسرة، أم عسرة وتجري من مواضع مرتفعة وصخرية، ثم هل هي ملحية وغير صالحة للطهي أم لا؛ وفي الأرض، إن كانت جرداء وتفتقر إلى المياه، أو مكسوة بالأشجار ومروية جيدا، وهل تقع في موضع منخفض ومحصور، أم مرتفع وبارد؛ والأسلوب الذي يعيش به السكان، والأنشطة التي يمارسونها، وهل هم مغرمون بالشراب وشرهون للطعام، وهل يركنون إلى الكسل، أم أنهم مغرمون بالتريض والعمل الشاق. (الأهوية والمياه والأماكن)².
كانت الأحاديث المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوباء والطاعون هي المرتكز الذي دار حوله الفقهاء وجعل بحثهم ينتقل من البحث الفقهي إلى البحث في مجالات أخرى في محاولتهم لفهم واستيعاب كثير من القضايا، منها قضية المراد بالطاعون، وهل هو والوباء شي واحد أم لا؟ وهل للطاعون أسباب محسوسة أم هو بسبب ما ورائي أو غيبي أو هو وخز من الشيطان كما جاء في بعض الروايات؟
وما هي العدوى، وهل هي موجودة أم لا؟
وكانت هذه التساؤلات محلا للبحث وأدت إلى تنوع وتعدد القضايا التي بحثوا فيها مثل:
– جواز الخروج من البلد التي وقع فيها الطاعون أو عدمه.
– حكم الحيل أو الاحتيال في الخروج من الأرض التي وقع فيها كما بوب البخاري في كتاب الحيل (باب ما يكره من الاحتيال في الفرار من الطاعون)
– حكم مخالطة المطعون أو الموبوء، وأحكام العدوى .
– الفرق بين الوباء والطاعون، ومايترتب على ذلك من النصوص الواردة في الصبر والوعد بالشهادة
كل هذه القضايا سنجدها قد وجدت بحثا وكما هائلا من التبيين والإيضاح.
ولعله من المستحسن أن نذكر بعض الأحاديث النبوية التي كانت مرتكزا للبحث الفقهي:
1- عَن عائشةَ رضيَ الله عَنها قَالتْ: لمَّا قَدِمَ رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم – المدينَةَ، وُعِكَ أَبو بَكرٍ وبلالٌ رضيَ الله عَنهُما، قالت: فدخلتُ عَليهما، فقلتُ: يا أَبَتِ! كيفَ تجدُكَ؟ ويا بلالُ! كيف تجدُكَ؟ قالت: ، فكانَ أَبو بكرٍ إذا أَخَذَتْهُ الحُمَّى يَقولُ: كلُّ امْرِىءٍ مُصَبَّحٌ في أَهْلِهِ … وَالموتُ أَدْنَى مِنْ شِراكِ نَعلِهِ وكان بلالٌ إذا أَقْلَعَ عَنْهُ الحمَّى يَرفَعُ عَقيرتَهُ يَقولُ:
أَلا ليْتَ شِعري هَل أَبيتَنَّ لَيلَةً … بوادٍ وَحَوْلي إذْخِرٌ وَجَليلُ
وهل أَرِدَنْ يَوْماً مِياهَ مِجَنَّةٍ … وهَلْ يَبدُوَنْ لي شامَةٌ وَطَفيلُ
قال: اللهُمَّ العَنْ شَيْبَةَ بنَ رَبيعةَ وَعُتْبَةَ بنَ ربيعَةَ وَأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ كما أَخْرَجونا من أَرضِنا إلى أَرضِ الوَباءِ. قالت عائشةُ: فَجئْتُ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم -فأَخبرتُهُ، قال:
“اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَينا المدينَةَ، كحُبّنا مَكةَ أَو أَشَدَّ، اللهُمَّ بارِكْ لنا في صاعِنا، وفي مُدِّنا، وَصَحِّحْها لنا، وانْقُلْ حُمَّاهَا إلى الجُحْفَةِ”.
قَالتْ: وَقَدِمْنا المدينَةَ وهي أَوْبَأُ أَرضِ الله. قَالَتْ: فكانَ بُطحانُ يَجْري نَجْلاً. (صحيح البخاري)
2- قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ” (صحيح مسلم)
3- وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ، فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» (مسند أحمد)
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – قالَ: “الشهداءُ خمسة: المَطْعونُ، والمَبْطونُ، والغَرِقُ، وصاحِبُ الهَدْم، والشهيدُ في سبيلِ الله” (البخاري)
انطلق الفقهاء من هذه الأحاديث وغيرها في الحديث عن الطواعين والأوبئة، ولقد اهتموا اهتماما بالغا في التعريف بالطاعون والتفريق بينه وبين الوباء وقد كان هذا التفريق حاضرا في أحاديثهم عن الطاعون
مثال ذلك ما يقوله أبو الوليد الباجي الفقيه المالكي : (هو مرض يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات بخلاف المعتاد من أمراض الناس، ويكون مرضهم واحدا بخلاف بقية الأوقات ، فتكون الأمراض مختلفة)
أما الإمام النووي فيعتمد على أقوال ابن سينا في التعريف به فيقول: (الطاعون مرض معروف وهو بثر وورم مؤلم جدا يخرج مع لهيب، ويسود ما حواليه، أو يخضر أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة، ويحصل معه خفقان القلب والقيء، يخرج في المراق (ما لان من الجسم) والآباط غالبا والأيدي والأصابع وسائر الجسد)
ويؤكد ابن حجر الفرق بين الطاعون والوباء، وأن تسميته بالوباء من باب التجوز فيقول : (الطاعون غير مرادف للوباء وأن إطلاقه عليه إنما هو بطريق المجاز لكونه أخص منه)³.
ومن ضمن القضايا التي كانت مكان بحث عند الفقهاء ، قضية التداوي والتفريق بين الدواء الثابت بالتجربة وبين ما يلحق به وليس منه ، كما أنهم لا ينسون التداوي بالأدعية والأذكار وما يترتب عليها من الشفاء ودفع الوباء يقول الامام السيوطي :
(وأكثر أناس في الطاعون من أشياء لا تغنيهم، وأمور لا تعنيهم من ذلك استعمال مأكولات وقوابض، ومخفقات وحوامض، وتعليق فصوص…
وأناس رتبوا أدعية لهم لم يرد بها حديث ولا أثر وابتدعوا أذكارا وآخرون تحولوا إلى البحر وشاطئ النهر، وما شعروا أن مجاورة البحر من أكبر الأسباب المعينة للطاعون طبا، والمضرة عند فساد الهواء جسما ولبا، إنما يصلح سكن البحر لمن يشكو الغم أو سوء الهضم)⁴.
وختاما: من أهم القضايا التي تحدثوا عنها قضية العدوي والجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض الأحاديث التي جاءت باثبات العدوى والأخرى التي جاءت بنفيها كحديث (لاعدوى ولا طيرة) ولعل البيهقي يلخص لنا وجه الجمع الصحيح بين هذه الأحاديث فيقول:
(قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا عدوى) ولكنه أراد به على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل لغير الله تعالى، وقد يجعل بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب سببا لذلك، وكل ذلك بتقدير الله تعالى)⁵.
ويقول القاضي تاج الدين السبكي : ( والذي نقوله في ذلك إن شهد طبيبان عارفان مسلمان عدلان (يعني مخالطة الصحيح للمريض) سبب في أذى المخالط، فالامتناع عن مخالطته جائز أو أبلغ من ذلك)⁶.
المراجع:
1.مقدمة كتاب (ما يفعله الأطباء والداعون بدفع شر الطاعون/ مرعي بن يوسف المرعي المقدسي الحنبلي (ص7).
2. كتاب: علم الأوبئة/ رودولفو ساراتشي (ص16).
3. بذل الماعون في فضل الطاعون لابن حجر ص (104).
4. ما يفعله الأطباء والداعون بدفع شر الطاعون/ مرعي بن يوسف الكرمي ص(12).
5. فتح الباري لابن حجر (10/161).
6. بذل الماعون في فضل الطاعون لابن حجر ص (27).