كتاب (بخت الرضا، الاستعمار والتعليم ) لمؤلفه الدكتور عبد الله علي إبراهيم هو أحد الكتب التي تقع في حيز دراسات نقد الإستعمار و يهدف المؤلف من خلاله إلى التأكيد على أن بخت الرضا منشأة استعمارية و بيان فلسفتها و أغراضها و كيف كانت نموذجا للطلاق المعرفي و الثقافي بين المدارس بصورتها الحديثة و المجتمع ، محاولا أن يزيل الهالة المقدسة التي تحول دون نقدها نقدا موضوعيا مع تعرض لحالة الورع و الفصام السياسي فيما يتعلق بهذه النقطة و الوقوف على أسبابه ثم الإتيان بنماذج تعبر عن ثقافة المجتمع و الربط بين التعليم و البيئة مثل التجاني الماحي و محجوب شريف و (الحبوبة) و الشيخ علي بتاي و بابكر بدري .
و جاء نسقه في ذلك بتقسيم الكتاب إلى قسمين أو كتابين .
قدم المؤلف لكتابه ببيان أنه يقع في إطار دراسات نقد الاستعمار و التأكيد على أن بخت الرضا منشأة استعمارية قد أحاطت بها هالة من التقديس الذي يحول دون التعرض لها بالنقد و إن كان بَنّاء حيث يبين أنه قد بطُل النقد عند الصفوة المحدثة و اليسارية بالكلية و ذاعت العزة ببخت الرضا بين التربويين مع دعوى سودنتها و يرى المؤلف أن حالة الورع السياسي هذه كما يسميها أو حالة الفصام المعرفي الذي ضرب له مثلا بحزب الأمة -الذي يقرن ذم المستعمر بمدح المهدية ثم بعد ذلك يمدح مؤسسات الإستعمار بل و يغلو في مدحها – راجع لخيبة الصفوة و خلوها من الخبرة الوطنية في إدارة البلاد على نهج قويم مؤدياً لفصلنا عن فرع في فلسفة التربية هو فرع التعليم والاستعمار، وأردف بإزالة الضباب عن مفهوم مغلوط هو أن المستعمرة انقسمت إلى وطنيين خلص و مستعمرين خلص والحقيقة أنهما امتزجا في منطقة وسطى سميت بالنص الخلاسي كبخت الرضا . بل إن هذا الخلط بلغ أوجه عند الوطنيين أنفسهم. و لم ينكر أن المدارس تعلم مهارات لكنها مهارات تخدم ايدلوجيا المستعمر كما سيأتي .
القسم الأول : (بخت الرضا: إلجام العوام)
ذكر فيه ما خلص إليه الباحثون من أن الاستعمار مشروع ثقافي بعيد المدى و قصّرت الحركة الوطنية كمؤتمر الخريجين في الإنتباه لذلك خلافاً للحركة الإسلامية التي كانت شديدة الإنتباه لهذه النقطة إلا أنها استسهلت الاصلاح و سارعت مسارعة غير رشيدة مع تركيزٍ غالٍ على السلطان .
و جاءت فكرة ترييف التعليم عندما ضاق المستعمر ذرعاً بتعليم الكتاب الذي قصُر دون إخراج الموظفين الأكفاء إضافة إلى خيبتهم بعد انقلاب 1924 وإضراب ،1931 إلا أنه اصطدم بتمسك الأهالي بالتمدين و تفطنهم لخلاصة ترييف التعليم و غرضه و هي تقلد الوظائف الحكومية .
و أقر الكاتب أن للسودانين دور داخل بخت الرضا محيلاً لكتاب الدكتورة فدوى عبد الرحمن علي طه إلا أنه يرى أنها قسمة ضيزى على حد قوله، حيث كانت مهمة الانجليز الخيال والابتكار واختيار المناهج للطلاب بينما كانت مهمة التجربة والتطبيق على عاتق السودانيين، ما خلا بعض المحاضرات العربية التي كان للسودانيين فيها باع لرصيد ثقافتهم الدينية والعربية ، ولعل أحد أسباب هذا التهميش في الأدوار هو الفرضية التي جاء بها المستعمر والتي ذُكرت في غير فصل من الكتاب و التي مفادها أن المستعمِر يعتقد أن المستعمَر خالٍ تماماً من الثقافة و يظهر ذلك جلياً في قول بول ولفويتز نائب وزير الدفاع الأمريكي و مدير البنك الدولي سابقا : “إننا لا ينبغي أن نتحسب لثقافة الآخرين أو ندعي لها حرمة، فنحن من يعطي الثقافة للراغبين و نمليها فنحن مستودعها ومالك حقوقها الفكرية “. و دائماً ما كان مستر غريفيث، مؤسس بخت الرضا، يؤكد على هذه النقطة و التي كانت من أسباب هذا الطلاق المعرفي المذكور الذي أنتج منهجاً وكتباً وصفها الدكتور عبد الله الطيب أنها (بلا بركة) ككتاب سكوت، ناظر كلية غردون في عهدها كثانوية، ومن الطريف أن الغردونييون أنفسهم اشتكوا من بؤس تعليمهم حتى وافقتهم على ذلك لجنة دويلار التي وفدت لتقصي حال التعليم في مستعمرات بريطانيا .
اتبع سكوت في كتابه المنهج التحليلي الذي يستذكر به التلميذ الحروف وحركاتها، أي جزئيات اللغة، بينما كان منهج الخلوة يجمع بينه وبين منهج التركيب المستمد من روح إدراك الجمل والكليات، قبل انصراف التفكير إلى تبيين الجزئيات. وكان العلامة عبد الله الطيب قد أكد على مسألة مواءمة التعليم لبيئة الطالب والإكثار من حفظ القران والشعر الجيد .
انتبه هودجن إلى أثر الدين وتغييره لحياة الناس، و كانت بخت الرضا نقطة تلاقحت فيها ثقافات عدة، المسيحية الملطفة المشحونة بحنين الإنجليز و النضال السلمي الذي جاء به غريفث من الهند على نهج الماهاتما غاندي الذي غلب في االسودان، مع ما يحمله السودانيون من تراثهم.
في فصل من فصول الكتاب تناول المؤلف رداً لحسب الرسول عباس البشير عليه، وكان الخلاف بين تفضيل إحدى نسختي كتاب غريفث إحداهما صدرت عام 1953 و أخرى عام 1975 حيث يرى الكاتب أن الطبعة الأولى أكثر تمثيلا للعقلية الاستعمارية مبينا أن عملية الترييف كانت بمثابة استسلام المستعمرين عن مهمة الرجل الأبيض لخوف من انقلاب المواطنين عليهم و ركزوا على إيصال فكرة مفادها أن المستعمِر له اليد العليا و للسودانيين اليد السفلى كما كانت لثقافتهم على ثقافة السودانيين أيضا حسب زعمهم .
في القسم الثاني من الكتاب كما ذكرنا ركز المؤلف على بيان نماذج و ضروب من ثقافة السودانيين وطرائقهم في التعليم ابتداء من (الحبوبة) و ثقافة الأحاجي التي كان غنية عند السودانيين، ويظهر ذلك في كتاب عبد الله الطيب الأحاجي السودانية الذي كان من أكثر الكتب مبيعا إضافة لدعوته لتعليم العربية عن طريق الأحاجي، و تطرق المؤلف لمسألة قلة تقدير (الحبوبة) في الأوساط الإجتماعية ودخول التلفاز وأمثاله منافساً لها، بل إن مفهوم الأسرة الحديثة يُنحِّي (الحبوبة) أصلاً، خلافاً لمفهوم الأسرة التقليدية، ويظهر ذلك كذلك في الخطط الإسكانية والتصور المعماري للمنازل.
لم ينته المؤلف بهذا بل أردفه بتجربة فريدة لمحجوب شريف بخروجه بتلاميذ مدرسة الأحفاد من قضبان الفصل لرحابة الشارع السوداني ليستقوا الثقافة السودانية من عجوز في الطريق وتغييره لنصوص ليست “كنصوص رضا المستكرهة، وكان يعلمهم النحو في الطرقات وجعل الباص مكتبة متنقلة، فأطلق الكاتب على هذه الحركة “بخت الرضا المضادة”. بعد ذلك انتقل المؤلف للحديث عن إدخال الخلوة لمدرسة الأحفاد بواسطة الشيخ بابكر بدري الذي أراد أن يجمع بين الحداثة و ثقافة العرب المسلمين، كذلك كان يدرس طلاب الصف النهائي كتاب طبقات ود ضيف الله، ويدعي المؤلف أنه يحمل صفوة علم المجتمع ، ولا أتفق معه في ذلك حيث أن كلمة العلم هنا تحتاج تحريراً إلا أنه يمكننا القول إنها ثقافة المجتمع…
ثم انتقل لذكر تجربة التجاني الماحي في الطب الذي انتقل لمفهوم أوسع من الطب بصورته الحديثة فكانت عيادته تعج بالمنشدين و المادحين و تملؤها أصوات الذكر و التهليل، وجمع التجاني بين الطب في ثقافة المجتمع والطب الحديث كما يظهر في إحالته أو تحويله للمريض بين العيادة والمسيد.
أخيراً تعرض الكاتب لتجربة الشيخ علي بيتاي الجميلابي من الهدندوة و تأثيره في قريته، في معاشهم و أمور معادهم و عاداتهم لدرجة أخافت المسؤولين في ذلك الوقت، أراد المؤلف من هذا القسم إيضاح فكرة أن المدرسة حرمت المواطنين من الإستفادة من كادرهم التقليدي كالشيخ والمهدي وغيره، وأدخلت في نفوسهم خوفا دقيقاً من المهدية. وظهر أثر الشيخ بوضوح حيث كانت تمتلئ خلاويه بعشرات الطلاب بينما عجز المسؤولون عن إدخال طالب واحد للمدرسة، ولما لاحظ الشيخ علي بيتاي نقص طريقتة لاحقاً حث الطلاب على دخول المدرسة وتولى الإنفاق على النجباء منهم.
وهذا هو النسق العام للكتاب الذي تعرض لفلسفة المدارس الحديثة كبخت الرضا، وازالة هالة قداستها، وبيان فلسفتها وفصلها عن بيئة المجتمع، والتعرض لنماذج ثقافية واضحة خالفت ذلك النموذج الحداثي خالي البركة كما يقول عبد الله الطيب .