هذا الفيلم هو طفرةٌ في الأفلام السّينمائية المُقتبسة عن روايات، إذ يأتي الفيلمُ مُحسّنًا من سمعة هذهِ الفِئة، مؤكدًا أنّ الرّوايات يُمكن لها أن تتحوّل لعملٍ مرئي لا ينقص ذلك من كمالها شيئًا، بل و رُبّما لا تكتملُ إلّا عندما تستحيلُ عملًا سينمائيًا. الرّواية من كتابة “ايما دونهاي” و التي برعت في إحالتها إلى سيناريو متين جيّد التشذيب، و ربّما كان أحد أهمّ الأسباب في نجاح الفيلم هو الأداء المُتقن للممثل “جيكوب تمبرلاي” في دور الشخصية الأساسية التي تروي القصة “جاك نيوسام” و تلك الكيمياء التي جمعته ب “بيري لارسون” في دور الأمّ “جوي نيوسام”.
يحكي الفيلم عن حياة “جاك” و والدته “جوي” في سقيفة الحديقة المُغلقة – لمدّة سبع سنوات- برمز سريٍّ لا يعرفانه و قد برعت والدته بإحالة الغرفة لمنزلٍ كامل في بضعة أمتار، مُحاولةً بذلك منح “جاك” طفولة مُبهجة رغمًا عن المأساة التي أوجدتها بالأصل في هذا الجُزء القذر من العالم على حدّ وصفها، و يبدُو أنّها نجحت في ذلك إذ يبرعُ “جاك” في تخطّي حدود الجدران الأربعة بخياله الجامِح و فطرتِه النقيّة و ذكائه الحادّ و يخلق له و والدته كون كامل بمجرّاتِه في هذه الغُرفة.
“جاك”… الإنسانُ الأوّل.
يبدُو “جاك” بهيئته التي يظهر عليها في أغلب الفيلم بشعرٍ طويل مجعّد لم يُحلق منذ خمس سنواتٍ هي عُمره، و بسرواله الدّاخليّ القصير، و مُناداته لأمّه بـ “ماه” عوضًا عن “ماما” و فضوله حول العالم خارج الغُرفة و إيجاد التّفسيرات باستخدام عقله البسيط – كالإنسان البدائِي الذّي ابتدر بعقله و حواسه اكتشاف العالم من حولهِ. يُمثّل “جاك” بانعزاله عن العالم بيئة خصبة للإجابة على أسئلة نظرية المعرفة الخمس “ما طبيعة المعرفة، مصدرية المعرفة، صدقيّة المعرفة، حدود المعرفة، و إمكانيّة المعرفة”، و رُبّما أرادت الكاتبة أن تجمع بين مُختلف المدارس التي أجابت على هذهِ الأسئلة في سلُوك “جاك” الذّي يتماشى مع مدرسة في جزء من نظريتها ثُمّ يُناقضها في تصرّفٍ آخر متماشيُا مع مدرسةٍ أُخرى، كأنّهُ يُشكّل البذرة التي انطلق منها روّاد مدارس أركان نظرية المعرفة في وضع أُسس مدارسهم.
“جاك” في مدارس المعرفة.
استقى “جاك” معرفتهُ بعالمه الصغير في الغُرفة من والدته أولًا ثُمّ التّلفاز الذّي لعب دورًا بارزًا في تشكُّل المعرفة عنده، بالإضافة للموجودات حوله و التي ساهم جزء كبير منها في فتح أبواب الفضول حول حقيقة العالم في ذهنه (مثل: النّافذة العلويّة و الباب المُغلق) و ساعده الجُزء الآخر في خلق عالمه الخاصّ مع “جوي” في الغُرفة، يعني ذلك أنّه بنى تصوّراته عن محيطه مستخدمًا الحواس و العقل سويّا مُمثّلًا بذلك مدرسة الانتزاع في مصدرية المعرفة، فمن خلال التصوُّرات البسيطة الأوّلية التي تسرّبت إليه عبر حواسه استطاع عقله أن يبني تصوّرات ثانوية عن أشياء لم يرَها و أحاسيس لم يجرّبها و كان ذلك ممّا ساعده على النجاح بالهرب فيما بعد.
كذلك استخدم “جاك” في إدراكه للأشياء أُسلوب تجريد الجزئيات و ردها إلى كلياتها، كما فعل مع الأشخاص المسطّحين ذوي الألوان في التلفاز و “نِك العجوز” فهو يدرك أنّهم بشر مثله و والدته، إلّا أنّه يعجز عن إدراك حقيقة وجودهم في بادِئ الأمر لعدم قدرته على التفاعل معهم مثل والدته و ذاته اللذان يُمثّلان الحقيقة فقط عنده، و ظلّ غير قادرٍ على الإيمان بوجُود الأشياء التي لم يتعامل معها مُمثّلًا بذلك المدرسة المثالية، فوالدته حقيقيّة لأنهُ يتعامل معها، ثعبان البيض حقيقي لأنه يلعبُ به، الملعقة حقيقية كذلك لذات السّبب، بينما الأشخاص في التّلفاز غير حقيقيّن لأنّه لم يتعرّض لهم، المحيطات غير حقيقية لأنهُ لم يرَها في الواقع، الوحوش لا يمكن أن تكون حقيقيّة لأنّ عقله لا يتصوّر أن تسعها الغرفة، منزل الأرجوحة غير حقيقيّ لأنه لم يشعرُ بوجوده، غير أنّ “نِك العجوز” شبه حقيقي ذلك لأنّه رآه لكنّهما لم يتفاعلا سويًا، إذًا فـ “جاك” كان يخلُق الوجود عبر إدراكه له كما تقُول المدرسة المثالية في طبيعة المعرفة، و لذا كان صعبًا عليه أن يُصدّق رواية ” جوي” الحقيقيّة عن سبب وجودهما في الغُرفة و عن وجود عالم كامِل مختلف في الجانب الآخر منها.
كما سلك الصّغير المدرسة العقليّة في مُصادقته للأشياء بالواقع إذ آمن فطرةً بكثيرٍ من الضّروريّات العقليّة العامّة و الخاصّة، مثل مفهوم العلّية الذّي استنتج به “هدايا يوم الأحد” و جلب “نِك العجوز” لحاجيّاتهم من الخارج باستخدامه للسّحر، فطنت “جوي” لهذا الأمر فبنت معارف نظريّة على هذهِ الضّروريات العقليّة لتفسير سبب تواجدهما في هذه الغُرفة و قد استخدمت لشرح وجود العالم الخارجيّ و الجانب الآخر من الغُرفة نظرية النّماذج بانيةً نموذجها على الفأر الذّي رمت به نحو الجانب الآخر من الغُرفة دون قصدٍ منها.
يظلّ جاك خلال الفيلم يطرح أسئلة كثيرة عن كُلّ ما حوله دون أن يقتنع بالإجابات فورًا بل يستمر بطرح الأسئلة حول الإجابات المقدمة لأسئلته ممحّصًا و باحثًا عن الحقيقة في تمثيلٍ للشكّ المنهجي الذي يقتضي الوصول للحقيقة عبر طرح كُل الاجابات المقدمة على طاولة الشكّ، تلك الإجابات التي تُقدّم دُفعةً واحدةً حال خروجه من الغرفة للمرّة الأولى، فيبدأ عقله في مُطابقة كُلّ ما رآه في التّلفاز و ما حكته له “جوي” و تلك التّصورات التي غُزلت في عقله عن العالم الخارجيّ بما يراه الآن أمامه فيقتنع بحقيقة العالم في إسقاطٍ واضح لنظرية التّطابُق، كما استخدم “جاك” المقارنة في تعرّفهِ على العالم الجديد، إذ ظلّ يقيس كُل الأشياء في العالم بتلك التي في الغُرفة، و يبني معرفة جديدة على ما يمتلِك من معرِفة، سواءً في تعرّفه على أشياء جديدة كليًا فتجدُه يُقاربها بشيءٍ مماثل في الغُرفة، أو أشياء يعرفها مُسبقًا لكنّها تختلف في العالم مثل الاضاءة و الحرارة التي تتبدّل دومًا في العالم الخارجيّ كما يقُول، في إشارة ضمنيّة منه إلى وسع العالم مُقارنة بالغُرفة كونها جزءً صغيرًا منه، و يبدُو في ذلك جليًا تصديقه بضرورة عقلية خاصة و هي أنّ الكلّ (= العالم)، أكبر من الجزء( = الغرفة).
“جوي” .. الأُمومة بالفطرة.
عكس الفيلم عبر شخصية “جوي” و بشكلٍ رائع فكرة فطرية الأمومة، إذ يُلحّ على المشاهد سُؤال عن سبب احتفاظ “جوي” بـ”جاك” رغمًا عن أنّه يمثّل تلك الفترة السيئة من حياتها و أنّه نتاج اختطافٍ و اغتصابٍ متتالٍ و حبسٍ قسريٍّ لسبع سنوات، إلا أنّ فطرية الأمومة التي أحسّتها بمُجرد قدوم جاك و قلبه عالمها إلى حالٍ أفضل -غلبت مشاعرها السّيئة و الاكتئاب الذي عانته، بل و جعلها تتصدّى لـ ” نِك العجوز” عن ابنها -خوف أن يُؤذيه – بدعوتها له للفراش مرّاتٍ عدّة بدل أن يلتقي بـ “جاك” أو اعتذاراتها المُتكرّرة عن أخطاء لم تتعمّد ارتكابها، و شُكرها له و ابداء الامتنان على اعاشتِهما و رجاءها المُتكرّر عند طلب أي شيءٍ منه، كُل هذا في سبيل حماية طفلها حتّى اعتادت هذه البشاعة والوضع المُزري، اضافةً إلى أنّ فطرة الأمومة هذهِ التي اشتعلت بوجود “جاك” جعلت من الغُرفة مكانًا يُحتمل العيش فيه طوال خمسِ سنوات.
في الدقيقة الثالثة من الفيلم تشعُر جوي بألمٍ في سنّها و تتجاهله بقولها أنّ العقل يتغلّب على المادّة فيوافقها “جاك” في ذلك مُشيرًا إلى أنّ التغاضي عن الألم يجعلهُ غير موجودًا و أنّ العقل هو الذّي يهزم المادّة يشملُ ذلك الحدود، كأنّما يُضيف بذلك توضيحًا آخر عن صمود كليهما و احتمالهما العيش في هذه المساحات المحدودة طيلة سنواتٍ سبع، و أنّ عقله الواسع خلق كونًا آخر لا يراهُ غيره في هذه المساحات ممثّلًا بذلك فطرة الانسان الرّافضة للقيُود، و تغلّبت والدته على هذا العذاب بتغاضيه.
واجهت جوي قدرًا هائِلاً من العذاب النّفسي و الجسدي في محتجزها، إلّا أنّ تفكيرها بصغيرها و وعدها أن تبقيه آمنًا ظلّ دافعها الوحيد و الأقوى لتبقى على قيد الحياة طيلة سنين احتجازها دون أن تُؤثّر بشاعة الحياة داخل هذهِ الجُدران على دافعها هذا، و لكن يبدو كما لو أنّ العالم الخارجيّ كان أكثر قسوة ليُزعزع دافعها الأوحد و يدفع بها لمحاولة انتحارٍ فاشلة تدخل المشفى على إثرها، ليُقرّر “جاك” التخلّي عن شعره لأجل والدته المُتعبة و الذّي كان قد رفض التخلّي عنه سابقًا لأن فيه قوّته على حدّ قوله، لكنه يكتسب قوّته للتوّ اذ ينطلق فيما بعد يلعب مع طفل الجيران و يتحرّر من تقوقعه على نفسه رويدًا رويدًا و يعتاد على جدته و صديقها و المنزل و يخرج من دائرة الأمان خاصّته المتمثّلة في التلفاز و الهاتف النقّال، بينما تتعافى والدته في ذات الوقت بوصول شعره إليها لتساعدها قوّته الكامنة فيه و رائحة طفلها على النّهوض و تراجعها عن إنهاء حياتها – تلك التي قررتها لظنّها أنّها أخطأت باحتفاظها بطفلها – و اختيارها مواجهة العالم الذّي دمّر حياتها برفقة “جاك” و الرّضوخ لحقيقة أنّها والدته و ان كانت والدة سيئة، كما يقُول الصّغير.
رغمًا عن أنّهما احتجزا لذات الفترة في ذات المكان، إلّا أنّه لا يفُوتنا الفرق الواضح بين نظرة “جاكّ” للغرفة و نظرة “جوي”، فالأخيرة تراها على أنّها سجنٌ ضيّق دمّر حياتها إلى الأبد و أكسبها ندوبًا تحملها على جبينها يُعيرها بها بشكل أو بآخر كل من حولها، و إن كان والدها، بينما يرى “جاك” الغُرفة على أنّها الأمان، عالمهُ الحُلو الصغير الذّي ظلّ يشعُر بالحنين إليه مُنذ أن غادره، إلّا أنّه يعي في آخِر الأمر أنّ الغُرفة ليست غُرفة دون رفاقه فيها، يعي ذلِك و هُو يزورها لمرّةٍ أخيرة حيث تظهر الغرفة خاليّةً من كلّ الأشياء التي اعتبرها أصدقائه و شكّلت فيما مضى عالمًا كاملًا بالنسبة له، يبدُو “جاك” حزينًا بعض الشيء حين قوله أنّ الغرفة ليست غُرفة إن لم تكُن مُغلقة مُسلّمًا بأنّ حنينه المُستمر للغرفة بعد خروجه منها يكمُن في كون أنّها كانت كُلًا لا جُزءً من عالم أوسع، رافضًا بذلك إغلاق والدته للباب، ربّما لأن ذلك لن يُغيّر من حقيقة الأمر شيء!
تدُسّ “ايما دونهاي” -دون قصدٍ منها- في ثنايا روايتها فكرةً عبقريّة، ربّما الأكوان الموازية موجودة بحقّ و لكنّ ليس على الهيئة التي تنصُّ عليها الفيزياء، ربّما الأكوان الموازية هي تصوُّر كلٍّ منا عن العالم في طفولته، ربّما الأكوان الموازية موجودة في أذهاننا، و لعلّ ما في أذهاننا حقيقي .. في عالمٍ ما! لعلّها تصوُّراتنا عن العالم حولنا، لعلّ تلك العوالم التي صنعناها عن الأشياء التي خذلتنا حقيقة إدراكها – هي في الأصل عوالم موازيّة، و يبدُو أنّ عالم “جاك” المُتخيّل هذا، أحدها!
عند نهاية الفيلم يجدُ المشاهد نفسه مع سؤالٍ شديد الإلحاح ظلّ يتردّد عليه خلال مشاهدة الفيلم و هو : نظرًا لأنّ التّلفاز ظلّ النافذة الأوسع على العالم لدى “جاك”و الذّي عبره خلق العالم الذّي عرفه و والدته، كيف كان سيكُون هذا العالم في عقله إذا لم تُوجد هذه النّافذة؟ أو كيف كان سيُؤثّر عدم وجود التّلفاز و عدم قدرته على المُقاربة بين الواقع و ما ترويه عليه أمّه من حكايا و ما يجده بين دفّتي قصص “أليس في بلاد العجائب” – على تلقّيه للمعرفة؟ أي بمعنىً آخر، كيف كانت حياته ستكُون لو أنّه انعزل حرفيًا عن العالم الخارجيّ، و خرج إليه فيما بعد؟