لفهم عملية التطبيع التي تتفاعل الآن بين السودان وإسرائيل لابد من الإلمام أولا بالأوضاع الداخلية في السودان بعد الثورة. فعقب نجاح الثورة السودانية في الإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير في 11 إبريل 2019 برز التنافس بين المكونين المدني، المتمثل في تحالف قوى الحرية والتغيير (قحت)، والمجلس العسكري الذي تكوّن إثر قرار اللجنة الأمنية خلع الرئيس السابق عمر البشير. خلصت المفاوضات بين الجانبين، بوساطة من الاتحاد الأفريقي واثيوبيا، للاتفاق على وثيقة دستورية وقيام نظام برلماني يقوده رئيس وزراء ومجلس للسيادة، يمثل رأس الدولة، ويتكون مجلس السيادة من ستة مدنيين وخمسة عسكريين. يقود هذا التشكيل البلاد في فترة انتقالية مدتها 39 شهرا يتسلّم العسكريون رئاسة مجلس السيادة لمدة الـواحد وعشرين شهرا الأولى بينما يكون للمدنيين الرئاسة في الثمانية عشر شهرا المتبقية من الفترة الانتقالية. تختار قحت الوزراء ليصادق عليهم مجلس السيادة ما عدا وزيري الدفاع والداخلية الذين يعينهما المكون العسكري. يتكوّن الشق العسكري في مجلس السيادة من أربعة ضباط من القوات المسلحة وعضو خامس هو الفريق محمد حمدان دقلو (المشهور بحميدتي) قائد قوات الدعم السريع، ويشغل الآن نائب رئيس مجلس السيادة. وكانت قوات الدعم السريع في بداية عهدها مليشيا أنشأها نظام الرئيس السابق عمر البشير لتجابه نشاط الحركات المسلحة في دارفور، وأطلق عليها في ذلك الوقت اسم “مليشيا الجنجويد”. ثم تطوّرت لاحقا لتأخذ في عام 2016 اسم قوات الدعم السريع وتكون جزءا من القوات المسلحة. على الرغم من هذا التطوّر إلا أن هذه القوات ظلت منفصلة وارتبطت اسميا فقط بالقوات المسلحة. تشارك قوات الدعم السريع في الحرب في اليمن كقوات سودانية مشاركة ضمن التحالف العربي المناوئ للحوثيين.
جابهت الحكومة السودانية الجديدة تحديات مختلفة كان أكبرها تردي الأوضاع الاقتصادية، وكانت تؤمّل في أن الإطاحة بالنظام السابق ستدفع بقوى إقليمية ودولية للتعجيل بدعم التحوّل الجديد في البلاد. لكن تباين مواقف تلك القوى حيال ما يجري في السودان، حال دون ذلك. فمن هذه القوى من يريد إعادة ترتيب السودان بشكل جديد يخدم مصالحها، ومنها من يرغب في الدفع بفاعلين جدد ليكون لهم دور مؤثر في مستقبل البلاد، ومنها من يود استمرار الحكومة الجديدة في أداء أدوار إقليمية ودولية ورثتها عن النظام السابق والاصطفاف الكامل في تحالفات إقليمية. ولمّا كان التحالف السياسي الذي انبثق منه النظام الجديد متعدد الرؤى والتوجهات فيما يلي قضايا السياسية الداخلية والخارجية، توقف دعم خليجي بمبلغ 3 مليار دلار وعدت به السعودية والأمارات بعد نجاح الثورة، استلمت منه الحكومة الجديدة نحو 500 مليون دولار، وتوقفت الدولتان عن دفع بقية المبلغ في انتظار انجلاء مواقف الحكومة واستقرار توجهاتها السياسية. على الرغم من الوعود بالدعم التي جرى الإعلان عنها في مؤتمر دعم السودان الذي انعقد في برلين في يونيو 2020، وأصدقاء السودان الذي انعقد في الرياض في أغسطس 2020، إلا أن جل هذه الوعود لم تنفذ لأنها جاءت مشروطة برفع الدعم عن سلع أهمها الخبز والوقود. وقرار رفع الدعم يتطلب اتفاقا سياسيا بين مكونات التحالف السياسي الحاكم حيث يجد معارضة من بعض أحزاب التحالف. في ظل هذا الوضع تدنت قيمة الجنيه السوداني، وظل التضخم في تصاعد حيث تخطت نسبته حاجز المائة في منتصف عام 2020 وفي سبتمبر 2020 تخطت حاجز المائتين.
أسهمت العقوبات المفروضة على السودان بسبب وضعه في القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب في تعقيد وضعه الاقتصادي، ونُظر إلى إزالته من تلك القائمة بحسبانها خطوة مهمة نحو التعافي الاقتصادي. وكانت الحكومة السابقة التي أطاحت بها الثورة قد عمدت إلى الدخول في مفاوضات تطاولت مع إدارات أمريكية مختلفة حول إزالة اسم السودان من القائمة دون نجاح. لذا رأت حكومة الثورة الجديدة أن تجعل موضوع إزالة السودان من القائمة على رأس أولوياتها.
راج فهم وسط سياسيين سودانيين أن إزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية تحتاج إلى قوى ومناصرين يضغطون على الإدارة الأمريكية ودفعها للقيام بالإزالة. لجأت الحكومة الجديدة للمملكة العربية السعودية ولدولة الأمارات العربية للمساعدة في هذا الصدد. وعلى الرغم من دعم الدولتين لهذا الاتجاه، إلا أن وتيرة السعي نحو الإزالة كانت بطيئة اكتنفتها تعقيدات دفع تعويضات لأسر ضحايا تفجيرات الباخرة كول والسفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام. في ظل هذه الظروف المتمثلة في تردي الأوضاع الاقتصادية وتأخر رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب برزت فكرة الاتصال المباشر وعلى أعلى المستويات مع إسرائيل والتطبيع معها لاحقا بحسبان ذلك الخيار الأسرع للضغط على الحكومة الأمريكية لرفع السودان من قائمة الإرهاب.
جاء لقاء رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو في يوغندا في 3 فبراير 2020 بترتيب إقليمي وأمريكي، وقد اضطلعت بدور مهم في ترتيب اللقاء نجوى قدح الدم مستشارة الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني، وهي سودانية الأصل تحمل جواز سفر دبلوماسي سوداني بدرجة سفير، وقد منحها الرئيس السوداني السابق عمر البشير وساما لدورها في تحسين العلاقات بين السودان ويوغندا. ولدورها في ترتيب اللقاء بين البرهان ونتنياهو قررت الحكومة الإسرائلية ارسال طائرة خاصة لنقلها من الخرطوم عندما أصيبت بالكورونا لتتلقى العلاج في إسرائيل، لكنها توفيت قبل ذلك. وبحسب تقرير للقناة 13 الإسرائيلية يعد المحامي كوفمان الذي يدافع عن متهمين في محكمة الجنايات الدولية هو الرسول الذي حمل رسالة من نتنياهو إلى البرهان في يناير/ كانون الثاني 2020 ورجع بردود إيجابية. كشف نتنياهو عن اللقاء الذي حرص البرهان على إبقائه طي الكتمان ليؤكد أن الحكومة السودانية قد كسرت الحاجز الأصعب في التطبيع وهو اللقاء على أعلى المستويات بين البلدين، وتخلي السودان عن رفض التطبيع.
بعد لقاء يوغندا، أعلن المتحدث باسم مجلس الوزراء السوداني أن المجلس لا علم له باللقاء وينتظر توضيحات من رئيس مجلس السيادة بعد عودته. قال البرهان إنه أخطر رئيس الوزراء عبدالله حمدوك وقام بهذه الخطوة من واقع مسؤوليته بأهمية العمل الدؤوب لحفظ وصيانة الأمن الوطني. قوبل اللقاء برفض من أحزاب سياسية مهمة في تحالف (قحت) الحاكم مثل حزب الأمة القومي والحزب الشيوعي وحزب البعث، كما رفضته تيارات إسلامية مختلفة. وقبيل زيارة وزير الخارجية الأمريكية بومبيو للخرطوم للضغط عليها للتطبيع مع إسرائيل، قرر المجلس المركزي لـ (قحت) أن يخطر رئيس الوزراء حمدوك وزير الخارجية الأمريكي بومبيو أن أمر التطبيع مع إسرائيل ليس من مهام الحكومة الانتقالية، وهو مافعله حمدوك.
على صعيد الشق العسكري، الذي يترأس مجلس السيادة، لم تتراجع الرغبة عنده في التطبيع. لذا غادر الفريق البرهان إلى أبوظبي ليناقش مع مسؤلين أمريكيين وإسرائيليين وأماراتيين صفقة التطبيع، وكان دافعه المقابل الاقتصادي الذي ستتحصل عليه الحكومة السودانية مقابل التطبيع. تشير تقارير صحفية إلى أن الخلاف بين الأطراف تركّز على جملة مبلغ الدعم الذي سيتلقاه السودان حيث طلب البرهان نحو 3 مليارات دولار، غير أن الأمارات والولايات المتحدة تعهدتا بنحو 800 مليون والتزمت إسرائيل بدفع نحو 10 مليون دولار، نتيجة لذلك لم تنجح مفاوضات أبوظبي. بعد ذلك طالب رئيس الوزراء بفصل موضوع التطبيع عن موضوع رفع السودان من قائمة الإرهاب.
تضافرت عوامل مختلفة في بلورة موقف الحكومة السودانية من التطبيع على النحو التالي
أولا، تنوّع التحالف السياسي الذي يشكّل الحاضنة السياسية للحكومة والتباين بين المكونين العسكري والمدني. مكّن هذا الوضع الذي يتسم بالسيولة قوى سياسية من رمي اللوم في السعي نحو التطبيع على أطراف أخرى بسبب وجود رفض شعبي للتطبيع. فوفقا لاستطلاع للرأي قام به المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فإن نحو 79% من السودانيين يرفضون التطبيع مع إسرائيل. كما أن المكون العسكري نفسه يتكون من شقين الأول القوات المسلحة والثاني قوات الدعم السريع، ولكل شق أهداف خاصة. وقد صرّح قائد قوات الدعم السريع الفريق دقلو بأنه يؤيد مساعي التطبيع. وترى جريدة الجيرازليم بوست الإسرائيلية أن هدف الفريق دقلو هو حماية الحكومتين الإسرائيلية والأمريكية له من ملاحقة المحاكم بسبب الاتهامات التي وجهت لقواته بارتكاب جرائم حرب في دارفور.
ثانيا، طبيعة النظام السياسي الذي يحكم البلاد وهو نظام برلماني. وكما هو معروف في هذا النظام فإن رأس الدولة التنفيذي هو رئيس الوزراء، بينما يشكل مجلس السيادة في السودان، رأس الدولة الرمزي. ووفقا للوثيقة الدستورية تقع قضايا السياسة الخارجية ضمن اختصاصات مجلس الوزراء. وكان من الطبيعي أن يقود مساعي التطبيع أو يقف ضدها بوضوح رئيس الوزراء حمدوك. ويشير مسار الأحداث إلى أن رئيس الوزراء يضمر الموافقة على التطبيع حيث لم يمانع من أن يقوم رئيس مجلس السيادة بالبت في قضية مهمة من قضايا السياسة الخارجية التي هي من اختصاصه، وأعلن مجلس الوزراء أن التطبيع مع إسرائيل ليس من مهام الفترة الانتقالية، وهو موقف وسط يرضي كل مكونات الحكومة. ولمّا كان موضوع التطبيع مع إسرائيل يجد معارضة شعبية وداخل (قحت)، فإن رئيس الوزراء رضِي بتولي رئيس مجلس السيادة مهمة التطبيع ليتحمّل بدلا عنه عدم الرضا الشعبي من التطبيع. وفي الوقت ذاته يكون الفريق البرهان قد وطّد بمساعيه نحو التطبيع تحالفاته الإقليمية ودعم احتمال استمراره في رئاسة مجلس السيادة.
ثالثا، الطبيعة التكنوقراطية لبعض مكونات الحكم في السودان. فرئيس الوزراء عمل لفترة طويلة في منظمات دولية، ورئيس مجلس السيادة خدم لفترة طويلة في المؤسسة العسكرية. ومن تأثير البعد التكنوقراطي عدم الإكتراث كثيرا بالأبعاد القيمية والسياسية، والنظر للقضايا من باب المصلحة المادية الآنية المباشرة.
رابعا، التعويل على الخارج. على الرغم من تصريح رئيس الوزراء حمدوك بعد توليه المنصب أنه لا يعوّل كثيرا على العون الخارجي، إلا أن واقع الحال يشير إلى عكس ذلك. فمؤتمرات الدعم الخارجي في برلين والرياض، وتعهدات الدعم المختلفة، وضعف مردود المشروعات الداخلية مثل حملة “القومة للسودان” التي ترمي لجلب الدعم المحلي، جعلت الحكومة أكثرا اعتمادا على الخارج. كما أن تعجّل الحكومة برفع اسم السودان من قائمة الإرهاب جعلها أكثر عرضة للضغط عليها من إدارة ترمب وهي تسعى لتحقيق مكاسب انتخابية.
يبقى السؤال المهم: ما مستقبل مساعي التطبيع بين السودان وإسرائيل؟ يتوقف مسار التطبيع على التوازن بين المكونين العسكري والمدني، وعلى التوازن داخل (قحت) بين المؤيدين للتطبيع والمعارضين له، وعلى كثافة الضغوط الخارجية وخاصة الإقليمية التي تسعى لتقديم خدمة لترمب. غير أن تردي الأوضاع الاقتصادية والانقسام داخل تحالف (قحت)، تحمل رئيس الوزراء حمدوك على ألاّ يدفع بعامل استقطاب جديد يفاقم الأوضاع ويعصف بالتوازنات الهشة القائمة.