إن الاشتباكات المسلحة على طول الحدود بين السودان وإثيوبيا هي أحدث منعطف في تاريخ من التصارع المستمر منذ عقود بين البلدين، على الرغم أنه من النادر أن يتقاتل الجيشان بصورة مباشرة على ]السيطرة على[ الأراضي.
القضية العاجلة هي منطقة متنازع عليها تعرف باسم الفشقة ، حيث تلتقي منطقة إثنية الأمهرة شمال غرب إثيوبيا بسلة خبز السودان، ولاية القضارف.
على الرغم من أن الحدود التقريبية بين البلدين معروفة جيدًا -يحب المسافرون أن يقولوا إن إثيوبيا تبدأ عندما تفسح السهول السودانية الطريق للجبال الأولى- نادرًا ما يتم ترسيم الحدود الدقيقة على الأرض.
معاهدات الحقبة الاستعمارية:
الحدود في القرن الأفريقي متنازع عليها بعنف. خاضت إثيوبيا حربًا مع الصومال في العام 1977م على منطقة أوجادِن المتنازع عليها.
وفي العام 1998م، حاربَت إريتريا على قطعة صغيرة من أرض متنازع عليها تسمى بادمي.
قُتِل حوالي 80 ألف جندي في تلك الحرب التي أدت إلى غبن عميق بين البلدين، خاصةً أن إثيوبيا رفضت الانسحاب من بلدة بادمي على الرغم من أن محكمة العدل الدولية حكمت بمعظم الأراضي لإريتريا.
أعادت القوات الإريترية احتلالها خلال القتال في التيغراي في نوفمبر 2020م.
بعد حرب عام 1998م، قامت إثيوبيا والسودان بإحياء محادثات كانت خامدة لمدة طويلة، لتحديد المواقع الدقيقة لحدودهما التي يبلغ طولها 744 كيلومترًا (462 ميلًا).
وكانت أصعب المناطق حلًّا هي الفشقة. وفقًا لمعاهدات الحقبة الاستعمارية لعامي 1902م و 1907م ، تمتد الحدود الدولية إلى الشرق.
وهذا يعني أن الأرض ملك للسودان – لكن الإثيوبيين استقروا في المنطقة وكانوا يزرعون هناك ويدفعون ضرائبهم للسلطات الإثيوبية.
الصفقة التي أدينت باعتبارها مساومة سرية:
وصلت المفاوضات بين الحكومتين إلى تسوية في العام 2008م. اعترفت إثيوبيا بالحدود القانونية لكن السودان سمح للإثيوبيين بمواصلة العيش هناك دون إزعاج.
لقد كانت حالة كلاسيكية لـ “الحدود الناعمة” التي تتم إدارتها بطريقة لا تدع موقع “الحدود الصلبة” يعطل سبل عيش الناس في المنطقة الحدودية؛ فظل هناك تعايش لعقود حتى قبل قليل، عندما طالبت إثيوبيا بخط سيادي نهائي.
ترأس الوفد الإثيوبي في المحادثات التي أدت إلى تسوية عام 2008م المسؤول الرفيع في جبهة تحرير شعب التيغراي، آباي تسيهاي.
وبعد الإطاحة بجبهة تحرير شعب التيغراي من السلطة في إثيوبيا في العام 2018م، أدان زعماء عرقية الأمهرة الصفقة ووصفوها بأنها مساومة سرية وقالوا إنهم لم يتم استشارتهم بشكل ملائم.
لكل جانب قصته الخاصة حول ما أشعل الاشتباك في الفشقة. ولكن ما حدث بعد ذلك ليس محل خلاف: فقد طرد الجيش السوداني الإثيوبيين وأجبر القرويين على الإخلاء.
في قمة إقليمية عُقدت في جيبوتي في 20 ديسمبر، أثار رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك المسألة مع نظيره الإثيوبي آبي أحمد.
اتفقا على التفاوض، لكن لكل منهما شروط مسبقة مختلفة. إثيوبيا تريد من السودانيين تعويض المجتمعات المتضررة؛ والسودان يريد العودة إلى الوضع القائم السابق status quo ante.
وبينما كان الوفدان يتحادثان، وقع اشتباك ثانٍ، ألقى السودانيون باللوم فيه على القوات الإثيوبية.
وكما هو الحال في معظم النزاعات الحدودية، لدى كل طرف تحليل مختلف للتاريخ والقانون وكيفية تأويل المعاهدات التي لها قرن من العمر. لكنها أيضًا أحد أعراض قضيتين أكبر – تم فتح قفل كل منهما من خلال تغييرات السياسات التي أجراها آبي.
مطالبات الأراضي في [إقليم] التيغراي:
الإثيوبيون الذين يسكنون الفشقة هم من عرقية الأمهرة – وهي مجموعة قام السيد آبي بربط منظومته السياسية بهم بشكل متزايد بعد أن فقد دعمًا كبيرًا في مجموعته العرقية الأورومو، وهي الأكبر في إثيوبيا. الأمهرة هم ثاني أكبر مجموعة في إثيوبيا، وظلوا حكام إثيوبيا التاريخيين.
بعد أن شجعت انتصارات الجيش الفيدرالي في الصراع ضد الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي على مدى الشهرين الماضيين، تقدم الأمهرة بمطالبات بأراضٍ في إقليم التيغراي.
بعد انسحاب الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي، وملاحقتها من قبل الميليشيات الإقليمية للأمهرة، قام الأمهرة برفع أعلامهم ووضعوا لافتات على الطريق كتب عليها “مرحبًا بكم في الأمهرة”. هذه كانت أراضٍ داخلية طالبت بها ولاية الأمهرة لكنها خصصت للتيغراي في التسعينيات عندما كانت الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي في السلطة في إثيوبيا.
النزاع حول الفشقة يتبع نفس النمط من المطالبة بالسيادة – باستثناء أنه لا يتعلق بالحدود الداخلية لإثيوبيا، ولكن بالحدود مع دولة مجاورة.
الفشل في حله سلمياً هو النتيجة غير المباشرة لانقلاب آخر في سياسة السيد آبي: العلاقات الخارجية لإثيوبيا. على مدار 60 عامًا، كان الهدف الاستراتيجي لإثيوبيا هو احتواء مصر، ولكن قبل عام، مد السيد آبي يد الصداقة.
كِلَا البلدين يعتبران نهر النيل مسألة وجودية.
تعتبر مصر السدود في جهة المنبع تهديدًا لحصتها من مياه النيل، حصتها التي تم تحديدها في معاهدات الحقبة الاستعمارية. ترى إثيوبيا في النهر مصدرًا أساسيًا للطاقة الكهرومائية اللازمة لتطورها الاقتصادي. وصل الخلاف إلى ذروته حول بناء سد النهضة الإثيوبي الكبير (GERD).
حجر الأساس للدبلوماسية المائية لوزارة الخارجية الإثيوبية كان شبكة من التحالفات بين دول المنبع الأفريقية الأخرى.
وكان الهدف هو تحقيق اتفاق شامل متعدد البلدان بشأن تقاسم مياه النيل. وفي هذا المنتدى، تم التفوق على مصر بالعدد.
وقف السودان مع المعسكر الأفريقي. كان من المقرر أن يستفيد من سد النهضة، والذي سيتحكم في الفيضانات، ويزيد الري، ويوفر كهرباء أرخص.
أرادت مصر محادثات ثنائية مباشرة بهدف الحفاظ على حقها الاستعماري في غالبية مياه النيل.
في إكتوبر من العام 2019م، استقلّ آبي الطائرة لحضور القمة الروسية الأفريقية في سوتشي. وعلى هامش القمة التقى بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وفي اجتماع واحد دون حضور مسؤولين بوزارة الخارجية، قلب السيد آبي استراتيجية إثيوبيا بشأن مياه النيل.
وافق على اقتراح السيسي بأن تتوسط وزارة الخزانة الأمريكية في النزاع حول سد النهضة. كانت الولايات المتحدة تميل إلى جانب مصر.
إذا كان الزعيم الإثيوبي الشاب، الذي فاز للتو بجائزة نوبل للسلام لإنهائه التوترات مع إريتريا، يعتقد أنه يمكنه أيضًا تأمين صفقة مع مصر، فقد كان مخطئًا. فقد حدث العكس: حاصر الشاب البالغ من العمر 44 عامًا نفسه.
كان السودان الدولة الثالثة التي تمت دعوتها للتفاوض في العاصمة واشنطن. وبسبب تعرضها للضغط الأمريكي لأنها كانت بأمس الحاجة إلى أمريكا لرفع العقوبات المالية التي كانت مفروضة عليها عندما صُنفت كـ”دولة راعية للإرهاب” عام 1993م، وقف السودان مع الموقف المصري.
انقلب الرأي العام الإثيوبي ضد المقترحات الأمريكية واضطر السيد آبي لرفضها، وبعد ذلك قامت الولايات المتحدة بتعليق بعض المساعدات عن إثيوبيا. حذر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من أن مصر قد تقوم بـ”تفجير” السد، وأعلنت إثيوبيا منطقة حظر طيران فوق المنطقة التي يقع فيها السد.
“نمط الزعزعة المتبادلة للاستقرار”
لا يستطيع الحائز على جائزة نوبل تحمل المزيد من الخلافات مع مصر بسهولة، وسط الصراع في التيغراي والاشتباكات في الفشقة. وهذه الاشتباكات تثير أشباح تاريخ طويل من الصراع بين إثيوبيا والسودان.
في الثمانينيات، قامت إثيوبيا الشيوعية بتسليح المتمردين السودانيين بينما ساعد السودان الجماعات المسلحة الإثنية-القومية، بما في ذلك الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي. وفي التسعينيات، دعم السودان الجماعات الإسلامية المسلحة بينما دعمت إثيوبيا المعارضة السودانية.
في ظل الاشتباكات المسلحة والاضطرابات في أجزاء كثيرة من إثيوبيا، ومع كون اتفاقية السلام الأخيرة التي أبرمها السودان مع المتمردين في دارفور وجبال النوبة ما زالت غير مكتملة، يمكن لكل بلد العودة بسهولة إلى هذا النمط القديم من الزعزعة المتبادلة للاستقرار.
وصلت العلاقات بين السودان وإثيوبيا إلى أكثر درجاتها حميميةً عندما سافر السيد آبي إلى الخرطوم في يونيو من العام 2019م لتشجيع المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية والجنرالات السودانيين على التوصل إلى اتفاق بشأن حكومة مدنية عقب الإطاحة بالحاكم لمدة طويلة عمر البشير.
لقد كانت مبادرة نموذجية لسلوك آبي –لافتة للانتباه بشدة وفردية بالكامل- وكانت بحاجة إلى إضفاء الطابع الرسمي من خلال الجسم الإقليمي “الإيجاد” والعبء الدبلوماسي الثقيل لآخرين، بما في ذلك الاتحاد الأفريقي والدول العربية والولايات المتحدة والمملكة المتحدة لتحقيق النتائج.
حاول رئيس الوزراء السوداني حمدوك رد الجميل من خلال عرض المساعدة في حل الصراع الإثيوبي في التيغراي. ولكن تم رفضه، في الآونة الأخيرة في قمة 20 ديسمبر، حيث أصر السيد آبي على أن الحكومة الإثيوبية ستتعامل مع شؤونها الداخلية لوحدها.
ومع استمرار تدفق اللاجئين من التيغراي إلى السودان، حاملين معهم قصص الفظائع والجوع، قد يجد رئيس الوزراء الإثيوبي صعوبة أكبر في رفض الوساطة.
كما أنه يخاطر بإشعال جولة جديدة من العداء عبر الحدود بين إثيوبيا والسودان ، مما يؤدي إلى تعميق الأزمة في المنطقة.
أليكس دي فال: “المدير التنفيذي لمؤسسة السلم العالميٌ التابعة لكلية فليتشر للقانون والدبلوماسية في جامعة تافتس في الولايات المتحدة الأمريكية.
المقال مترجم من موقع بي بي سي
الرابط الأصلي للمقال: https://www.bbc.com/news/world-africa-55476831