“آه ارحمنا يا ربنا نحن ضعفاء وخائفون وبدون معرفة”
إن نظرية المعرفة هي مبحث مهم في الفلسفة وتستند عليها النقاشات حول أصل المعرفة ومصادرها. وفي نقلة نوعية تحول بيرجمان من أفلام الكوميديا إلى صناعة فيلم يناقش أحد أهم الأسئلة الفلسفية المستندة على نظرية المعرفة , وهي قضية ( الإيمان بين الفلسفة والعلم) ليتحدث فيه عن منعطف إيماني مر به الفارس الصليبي “بلوك” عندما نجا من الموت في الحرب، ليجد الموت ينتظره في صورة الطاعون في بلاده.
يبدأ الفيلم بمشهد الموت على هيأة شخص متوشح بالأسود يسير نحو الفارس “بلوك”، يعكس بذلك المخرج فلسفة أن الموت حقيقة كلية موجودة وليست مفهوما مجردا على الأحداث, متفقا في ذلك مع أفلاطون في نظرية الاستذكار التي يقول فيها ” المعاني والأشياء كلها ظلال وانعكاسات للمثل والحقائق الأزلية الخالدة في عالم المثل”.
الموت و”بلوك”
كان الموت دوما ظل يتبع “بلوك” حاصدا الأرواح من حوله أثناء تجنُده في الحروب الصليبية، والموت الأسود- الطاعون – ظل يتبع أهاليه في السويد حاصدا أرواحهم وبهجتهم, وباهتزاز العالم المثالي المتقن في عيني ” أوتونيس بلوك” اهتزت معارفه, واضطرب إيمانه, وازدادت شكوكه, كيف يكون هناك إله وكل هذا الشر موجود! حتى يأتي دوره فيقابل الموت وجها لوجه, فيطلب من الموت أن يلعب ضده الشطرنج- في مماطلة لربما تتيح له بعض الأجوبة اليقينية قبل أن يموت, فيوافق الموت.
لم يقدر “بلوك” على قتل الرب في داخله كما فعل رفيقه “يونس” الذي كان رفيقا له في الحرب وعادا سويا ولكن لم تكن ذات الأثر العميق فيه كما حدث ل” بلوك” الذي بدأ رحلة بحثه بشك منهجي تقوده الحواس وحدها للوصول إلى اليقين, حتى يتوقف في الكنيسة شاكيا أنه استمر في البكاء والتضرع للإله في الظلام لكنه لا يسمع جوابا ولا يرى وجه الإله فيبدو كأنه لا أحد هناك ليسمع ويجيب على أسئلته ويمنحه المعرفة.
بلوك يريد أن تدرك حواسه الإله لينتقل من الشك والظن إلى المعرفة اليقينية.
وبعد تقديم “بلوك” لكل هذه الشكاوي ظنا منه أنه يتحدث مع أحد قساوسة الكنيسة ليدرك بعد ذلك أن محدثه ما هو إلا الموت نفسه، وهنا أوضح المخرج أن حتى المذهب الحسي للبطل قد خذله في بعض المواقف.
لم يتوقف الفيلم عند شكوك “بلوك” في وجود الإله وانما شمل أيضا حتى التقاليد الزائفة التي ولدت من رحم الخوف من الطاعون, فيجد فتاة اتهمها قومها بأن لها علاقة بالشيطان ولم تنكر ذلك الفتاة، فيهرول لها “بلوك” طالبا أن تعرفه عليه لعله يكون خيطا يربطه بكل ما لا يراه والأهم بالإله.
الطاعون واختلال الموازين
الطاعون كتجربة غير مسبوقة وكمعرفة لم يتم اختبارها بعد هز أيضا جميع المعارف العقلية والمنطق في أذهان المؤمنين, حتى أصبحت ولادة طفل برأس عجل أمرا يسهل تصديقه فلا شيء أكثر “لا عقلانية” من الطاعون نفسه.
أما الذين تمكنوا من الحفاظ على إيمانهم خلال الوباء وفظائعه, استمدوا معارفهم من الكهنة, والذين بدورهم يدعون استمداد المعرفة من المفارق, أولئك المتمسكون بإيمانهم حاولوا تذكير الناس بسبب الوباء, والذي تمثل عندهم في المعاصي, حاول معظمهم التطهر من الذنوب عن طريق النار والجلد والموت, لكن لم يزل الوباء بالطبع, عندها أتى الكهنة بنظرية جديدة وهي أن الوباء لن يزول إلا عندما يتطهر المذنبون بالجحيم نفسها.
مع اقتراب النهاية من الجميع, تنتشر البراغماتية , يترك المريض ليصارع الموت وحيدا ويسرق الحي من الميت فكل فرد مسؤول عن نجاته حتى لو اتبع طرقا غير أخلاقية لتحقيق النجاة.
“يوسف” والمدرسة الحسية
ويعود المخرج مرة أخرى لمدرسة المعرفة الحسية فيعرض لنا “يوسف” الفنان الممثل والذي كان يرى مريم العذراء واحيانا الشياطين وتارة الملائكة, كما رأى الموت وهو يلعب الشطرنج مع “بلوك”, فيهرع دوما ليخبر زوجته فتتحقق هي بدورها عن طريق التطابق فلا ترى ما رآه, وتحاول أن تخبر زوجها بأن ليست كل المعارف الناتجة عن الحس صائبة فتقول له أن كل ما رآه “ليست سوى أوهام” .
“إن الفن هو دعوة لخلق الإنسان” بيجوفيتش
“الغناء عن الأوقات المظلمة هو إعلان عنها, واعتراف بها بل وتخليدها”
ينتقل المخرج ليرينا أن الألم والشك ليست الجوانب الوحيدة التي مثلت فترة الطاعون فالفن أخذ نصيبه أيضا, فنجد مشهدا لرسام يدور حوار بينه وبين رفيق “بلوك” ثم تظهر فرقة “يوسف” الموسيقية والجدل الذي أثارته بين أهل القرية, وبالرغم من أن البعض يرى أن تلك الأهازيج والأغاني لم تكن إلا محاولة لإضفاء جو من المرح والبهجة في نفوس الأهالي كأحد رسالات الفن, إلا أنه لربما عرض الفيلم هنا نظرية “الترابط والاتساق اللغوي ” وعدم قدرتها فعلا على تقصي الحقيقة.
رقصة الموت
في نهاية الفيلم يجلس “بلوك” على طاولته برفقة زوجته وأصدقائه الذين اكتسبهم في سفره, تقرأ عليهم زوجته آيات من الإنجيل يدخل عليهم الموت الذي تغلب على بلوك سابقا في الشطرنج ليؤكد الفيلم على حتمية الموت , هذه المرة يرى الجميع الموت وليس “بلوك” فقط فيتوسلون إليه ويبكون, أما بلوك الذي أصبح مدركا لحتمية الموت يدعو الله مرة أخيرة أن يرزقه المعرفة فيأخذهم الموت ويربطهم ليؤدوا رقصة الموت الأخيرة.
وحتى بعد أن أعطى الموت “بلوك” الفرصة الكافية ليبحث عن أجوبة إلا أن “بلوك” يظل متمسكا بالمذهب الحسي حتى النهاية ولا يصل لأية أجوبة.
ربى إبراهيم
مزن محمد