بيتر جوردن هو أستاذ التاريخ والفلسفة في جامعة هارفرد، ألف مجموعة من الكتب، منها:
1- “Rosenzweig and Heidegger: Between Judaism and German Philosophy”2003
والذي حاز على جائزة “Forkosch” من مجلّة: “The History of Ideas”
2- “Continental Divide: Heidegger, Cassirer, Davos
Adorno and Existence
3- وكتابه الأخير:
Migrants in the Profane: Critical Theory and the Question of Secularization (Yale University Press, 2020)
أقام إطاره النظريّ بالاستناد إلى محاضرات فرانز روزنزويغ في الفكر اليهوديّ، وهي المحاضرات التي ألقاها في جامعة ييل عام 2017، وفيها يستكشف الأصول المبّكرة للنظريّة النقديّة في أعمال ثلاثة من مفكّري مدرسة فرانكفورت: والتر بنجامين، وماكس هوركهايمر، وثيودور أدورنو، علّق يورغن هابرماس على الكتاب قائلًا: “يسلط جوردن الضوء على”أعمق الأفكار وأكثرها سوادًا” التي واجهها هؤلاء المفكرون في الإجابة عن هذا السؤال الهام: “كيف وُظّفت قيم الدين لتأطير الحداثة العلمانيّة في المجال العام، بينما ينكرون جذور هذه القيم في المعتقد الديني”.
هذا العمل من التاريخ الفكري الحكيم، يستعيد العلمانية كمثال معياري normative ideal لعصرنا “ما بعد العلماني”.
في هذه الحواريّة يستكشف جوناثن كاتلين مع جوردون آخر أعماله.
نُشرت المقالة على موقع: JHI- Journal Of The History Of Ideas بتاريخ : 27 يناير، 2021
بعنوان Critical Theory and the Question of Secularization :
كتبها: جوناثان كاتلين
الحوار:
جوناثان كاتلين: استلهمت عنوان كتابك من مقالة أدورنو بعنوان: Reason and Revelationالعقل والوحي عام 1957، الذي علّق فيه على الصورة الشهيرة لصديقه الراحل والتر بنجامين عن لاعب الشطرنج الميكانيكي: “لن يبقى أي شيء من المحتوى اللاهوتيّ دون ألّا يتغيّر؛ إن كلّ محتوى سيوضع تحت عجلة العلمانيّ المدنّس” وقد أضاف أدورنو في رسالة لاحقة إلى صديقه غيرشوم شوليم Gershom Scholem، إنّ “هذا الأمرسيتم بقسوة ودون ذرّة واحدة من النّدم”.
إنّ فكرة شحذ الدّينيّ بعجلة المدنّس التي تتبعتَها في فكر أدورنو يرجعُ صداها إلى موضوعات الاضطهاد والاقتلاع في التاريخ اليهوديّ، وهي الفكرة التي تتبَعها مارتن جاي في كتابه: المنفيّون الدائمون permanent exiles، وهو الوصف الذي أطلقه على أعضاء مدرسة فرانكفورت الألمانيّة، هل يمكنك أن تخبرنا المزيد عن هذا الكتّاب وكيف ألهمك لتأليف كتابك هذا؟
بيتر جوردن : لقد كنت مشغولًا لمدّة طويلة بإشكاليّة العلمنة، وبينما كنتُ أعمل على مشروع هامّ يتناول العلمنة والفكر الاجتماعيّ –الذي آملُ أن أنهيه في وقتٍ قريب- تشرّفت بدعوة كريمة للمحاضرة في جامعة ييل، وقد انتهزتُ الفرصة لإعمال النّظر في مفهوم العلمنة الذي ظهر في الأعمال المبّكرة لمفكّري مدرسة فرانكفورت أمثال: “بنجامين، وهوركهايمر، وأدورنو، وهي المفاهيم التي بلورت النظريّة النقديّة التي تم تطويرها على يد مفكّري مدرسة فرانكفورت في ثلاثينيّات القرن العشرين.
لقد أثار اهتمامي إشارة أدورنو إلى أنّ العلمنة (هجرة في المدنّس)، وهي الفكرة التي تتبعها أدورنو مراجعةً وتحليلاً في محاضراته، فأعملتُ النظر فيها ومن ثم قررت جمع المراجعات في كتابٍ، وقد أنجزته في الوقت الذي تفاقمت فيه أزمة الهجرة، مع لجوء السوريين إلى أوروبا بسبب ظروف الحرب العسيرة.
تمثّل الهجرة تحديًا هامًّا لدول التعدديات الديمقراطيّة، ولذا وجدتُ أنّ إعمال النظر في فكرة أدورنو حول الهجرة وفي علاقتها مع أسس العلمانية للدول الديمقراطيّة الحديثة ملّحٌ في ظلّ الظروف الراهنة.
إنّ هذا الكتاب هو خلاصة ملاحظاتي التي أرجو أن أتمكّن من تطويرها في وقت لاحق، ويقوم جوهره على إعادة بناء بعض المشكلات الفلسفيّة التي تتعلّق بمفهوم العلمنة، التي نلحظها في أعمال بنجامين، وهوركهايمر، وأدورنو، وقد لحظتُ أنّ هذا المفهوم قد لعب دورًا مهمًّا في أعمالهم، وإن كانوا قد تباينوا في مُعالجتهم له، فأود تسليط الضوء على هذه الاختلافات مع بيان التناقضات الداخليّة في حججهم، وإن كنّا بالكاد نستطيع إهمال تجاربهم التاريخيّة؛ لقد ظهرت مدرسة فرانكفورت لأول مرّة في بوتقة الثقافة الأوروبيّة التي كانت تنحدر نحو الفاشيّة؛ ولهذا فقد عانى منظّرو مدرسة فرانكفورت من ويلات الاضطهاد والنفي الذي لم يكُن عرضيًّا بحال من الأحوال، الاضطهاد الذي نلحظه في خلاصة تأمّلاتهم الفلسفيّة والفنيّة، فالنفي لم يكن محطة لمعاناتهم ومسيرتهم الشخصيّة فقط؛ وإنّما كان تمثيلاً لشخصيّة هذه المدرسة، وله ارتباط وثيق مع فعلها الفلسفي والنقديّ، وهو الذي خلق شرط الإمكان لقيام النظريّة النقديّة، فيما اصطلح جورج لوكاش على تسميته “بالتشرّد المتعالي transcendental homelessness”
جوناثان كاتلين : تستكشف في هذا الكتاب مشكلة العلمنة كمشكلة مفاهيميّة لا كعمليّة اجتماعيّة، موّظفًا أعمال ثلاثة من مفكّري العلمانيّة الذين استعاروا مفاهيمهم من المعجم اللاهوتيّ. لنبدأ مع قرائتك لكتاب بنجامين Denkbild حيث نجد أنّه يصف العلمنة “كإخفاء وتغطية للدين لا زوال الدين واضمحلاله” في حملة مسيحيّة مُستترة في التاريخ، التي يمكن أن تتحول إلى قطيعة ثوريّة، فبينما كان يرى شوليم Scholem الماديّة التاريخيّة لبنجامين (كقشرة)لجوهرِ فكره اللاّهوتي، نجد أنّ اليسار الماركسي الجديد قد ادّعى أنّ بنجامين كان مُحرجًا من هذه الإشارات اللاهوتية، وتجدُ أنّ هذين التأويلان يمثّلان وجهان لتناقضٍ واحدٍ: “يُقيم بنجامين صراعًا دائما بين الماركسيّة والمسيحانيّة” مذ أصبحت “مناشدته للمسيحانيّة الترياق الراديكالي لصورته الراديكالية عن التاريخ المحبَط” ولكنّك تظلّ مشككًّا في وجهة نظر بنجامين، لأنّه كما قال أدورنو: “إذا سُلّم بالدّين لأجل غرضٍ آخر ، ولم يكُن التسليم به بالاستناد إلى حقيقته فإنّه سيقّوض نفسه”.
تحت أيّ الظروف تعتقد أنّ الخطاب الدينيّ يمكن بل يتوجب عليه أن يؤثّر في هؤلاء المنظّرين لانقاذ العالم المدمر؟
Joseph Racknitz’s conception of The Turk 1789 Wikipedia.
بيتر جوردن: على الرغم من إعجابي الشديد بأعمال بنجامين، إلا أنّ خلافاتي معه عميقة، كان تفكيره مبدعًا ولكنّه جامح ونادرًا ما يلتزم بمعايير الجدال العقلانيّ، يتعلق خلافي الرئيسيّ معه بالطريقة التي يلجأ بها إلى المقولات categories اللاهوتية في المراحل الحاسمة لفكره السياسي، فإذا كان يرغب بالدفاع عن أنواع species الماديّة التاريخية، أظنّ أنّه لن يستطيع أن يحتكم في –الوقت ذاته- إلى مبدأ يتجاوز التاريخ ويتطفّل عليه من الخارج.
يمكننا أن ندرك لماذا وجد نفسه في هذا المأزق: ففي الوقت الذي كان يكتب فيه أطروحاته theses الشهيرة، كشف ميثاق هتلر وستالين عن العبث المطلق لأيّ أمل في ثورة وشيكة، لذلك يصوّر بنجامين التاريخ كحقل خَرِب، مستعيرًا صورًا للمناظر الطبيعية القاتمة، أصبح التاريخ محبطًا: اجتماع بدون معنى، وبدون موارد جوهرية ضرورية للسعادة الإنسانية، نجد هذه النّظرة المحبطة للتاريخ أيضًا، في تفسيره لآلة الـ: Turk لفون كيمبلن von Kempelen للعب الشطرنج.
يرى بنجامين لوحة لاعب الشطرنج كصوة جدلية، أو رمزيّة allegory للمادية التاريخيّة، التي يخشى أنها أصبحت خالية من الحياة، خاصة كما نجدها في التفاؤل التكنولوجيّ للمراجعة البرنشتاينية Bernsteinian revisionism يجادل بنجامين قائلًا: إذا وجدت الماديّة التاريخيّة لتحقيق أهدافها كتفسير للتاريخ، فإنّها يجب أن تستفيد من مبدأ غريب عن التفكير الماديّ، يجد بنجامين هذا المبدأ في المفهوم اللاهوتي للقطيعة التاريخيّة، ومع ذلك يدرك بنجامين أنّ اللاهوت قد فقد هيبته في العالم العلمانيّ الحديث وينظر إليه على أنّه باطل، فمن ثمّ ينبغي “إخفاء” اللاهوت مثل القزم المخفي في مقصورة لاعب الشطرنج، إنّ العلمانية عند بنجامين لا تعني إحلال القيم الدينيّة؛ بل إنّها تعني فقط إخفاءها.
يقع بنجامين هنا في تناقض ذاتيّ؛ إذ ترى الماديّة التاريخيّة أنّ التغيير ينبثق من التناقضات الديالكتيكيّة الملازمة للتاريخ نفسه، فالاحتكام إلى مبدأ خارج التاريخ extra-historicalينتهك هذا الفهم، وهذه ليست مشكلة خاصّة ببنجامين؛ نواجه مشكلة مماثلة في النظرية السياسيّة الحديثة، إنّ أي مبدأ يرشّح للموافقة الديمقراطية في الخطاب السياسي الحديث يجب أن يخضع للتدقيق النقديّ، وألا يُغيَّب عن الحوار.
نستطيع أن نلحظ هنا تشابهًا مقلقًا بين بنجامين وكارل شميت، إنّ اقتراح شميت بأنّ مبدأ دينيًا خارج نطاق النّظام extra-systemic يمكن أن يكون بمثابة أرضيّة خفيّة لا جدال فيها للسياسات، إنّه يهدد نموذجنا عن المجال العام (كوسط محايد للنزاع العقلانيّ)من الناحية العمليّة طبعًا، يُطبّق هذا النموذج غالبًا بشكل انتقائي أو يتم تجاوزه، لكن إذا تخلينا عن هذ النموذج فسننحدر بسهولة إلى نظام سلطويّ authoritarian order حيث يهيمن دين واحد، وفي ظلّ الظروف الحديثة التي تفرضها التعددية العرقية والدينية، يجب أن يُحمل هذا التهديد على محمل الجدّ، كما نرى في بعض التجارب حول العالم، من القوميّة الهندوسيّة عند Modi’s India -سياسي هندي- إلى المسيحيّة الإنجيليّة هنا في الولايات المتحدة.
جوناثان كاتلين: أصبح يورغن هابرماس Jürgen Habermas معروفًاكمنظّر للحداثة العلمانية ومهتمًّا بالدّين كمصدر كمصدر للمعيارية normativity، في أوائل القرن الحادي والعشرين، وبعد أحداث 11 سبتمبر، وبعد بزوغ ما سمّاه عصر ما بعد العلمانية post-secular age، في عمله الضّخم: هذا أيضًا تاريخ الفلسفة Auch eine Geschichte der Philosophie، الذي يقع في مجلّدين عام سنة 2019، يستشهد بك في هذا المشروع كأحد أهمّ محاوريه، حيث يُعيد مشروعه بناء حوارٍ دام آلاف السنين بين العقل والإيمان باعتباره عملية تعلّم، حيث ير ى أنّ العقل العلمانيّ لم يزل يرث رؤاه من الدين، مع أخذه للشرط القائل بوجوب إخضاع القيم الدينيّة للنقد العام، ينتهي كتابك باتّفاق واسع مع هذا الطرح الهابرماسي، والذي يرتبط مع قراءتك لطرح أدورنو.
لقد انتابني الفضول حيال تعديلك للعنوان الفرعي لهذا الكتاب من مفهوم العلمنة إلى سؤال العلمنة، ما الذي تجده مُلحًا للغاية ولم يُحلّ بعدُ بخصوص هذه الفكرة؟
بيتر جوردون: لقد تعلّمت الكثير من هابرماس -مع أنني بالكاد أفتخر بأني أحد أهم مخاطبيه- إنّ كتابي الصغير يحاور بشكل وثيق عمله الأخير، بما في ذلك الكتاب الهائل الواقع في مجلدين الذي ذكرته، لقد كتبت كتابي في نفس الفترة تقريبًا، وأكملتُه قبل أن تُتاح لي الفرصة لإنهاء قراءة مخطوطته الرائعة، أعتقد أن هابرماس يقتبس في هامش كتابه الختاميّ من عنوان كتابي الأصليّ، حيثُ سميتُ العلمنة “مفهومًا” وبعد فترة من قراءته لمخطوطي، عدّلت هذا العنوان الفرعيّ؛ ببساطة لأن العلمنة ما تزال محلّ تساؤل، وما زالت المناقشات الأكاديميّة حول معنى “العلمنة” و”العلماني” مستمرّة، ولا يبدو أنها قد حُلّت، إنّها تعكس الجدل العام الواسع في أنحاء العالم بخصوص الأُطُر السياسيّة التي يمكن أن تكون مفضّلة إذا كنّا سنعيش في مجتمع يتبّنى ما يسميه أدورنو “اختلاف بدون هيمنة” difference without domination ولكن المرء كلما تعمّق في الأدبيّات النظريّة، أدرَك أنّ العلمانيّة لا تعني مفهومًا self- identical أو يديولوجية؛ إنها ترسمُ مجالاً واسعًا من الاحتمالات الدلاليًة والسياسيّة (لا يختلف عن الدين نفسه).
ولكن السؤال ملّح بالفعل : إذا كنا سنقبل التباين heterogeneity الديني والعرقي في المجتمع الحديث، علينا أن نتفق على إطار مشترك للتعايش السياسيّ، وقد تجادل بعض المنظّرين في السنوات الأخيرة حول “العلمانية” لأنهم يشككون في آثارها المتناقضة والإلزامية في كثير من الأحيان، وهم محقّون في تشكيكهم، كما أنّ حساسيّتهم تجاه المصطلح ليست مُفاجِئة البتّة، لكنّ هذا لا يُعفيهم من الحاجة إلى اقتراح إطار يسمح باستمرار التباين.
جوناثان كاتلين: من المعروف أنّ معظم أعضاء مدرسة فرانكفورت كانوا من أصل يهودي، وإن كان هناك اتفاق ضعيف حول أهمية هذا الأمر إلّا أنّ هناك مقاربات حول هذه الفكرة ككتاب جاك جاكوبس The Frankfurt School, Jewish Lives, and Antisemitism(2014) الذي يقول فيه أنسون رابينباخ Anson Rabinbach أنه يخلق نوعًا من سياسات الهوية identity politics لمدرسة فرانكفورت، متبنيًّا طُرفَة جيرشوم شوليم: “إنّها أحد أهم الطوائف اليهوديّة الثلاث التي أنتَجها اليهود الألمان” ص: 131، وبينما تُشكّكُ في هذه المقاربة الهوياتية، تؤكدُ على الزوايا المتباينة التي ينظر من خلالها المنظّرون للدين اليهودي Judaism والقومية اليهوديّة Jewishness .
ولعلّ التصنيف الاجتماعيّ لإسحاق دويتشر Isaac Deutscher “اليهودي اللايهودي” the non-Jewish Jew أكثر ملاءمة، ويبدو أنّك تفضّل طرح مايكل لوي Michael Löwy الأكثر كفاءةً والذي يفترض تآلفًا انتقائيًّا elective affinity بين التجربة اليهوديّة الحديثة والسياسة الطوباويّة أو الاشتراكيّة، وقد قلتَ: “يجب مقاومة الرغبة في اختزال الفلسفة في السيرة الذاتية” وهذه المقاربة المنهجيّة تتوافق مع الدعوة الأخلاقيّة لخلاصة كتابك، لتبني المهاجر non-identical بداخلنا، مع الإشارة إلى منظّري التعدديّة الثقافيّة بمن فيهم شيلا بن حبيب Seyla Benhabib ويورجن هابرماس، حيث قلتَ: “لا يمكننا تحقيق هذا النوع من التعايش المؤسسي الحاسم في حياتنا المشتركة اليوم إلا من خلال التحرر من الهوية الجماعية” هل هناك دور للهوية اليهودية في دراسة مدرسة فرانكفورت؟
بيتر جوردن: أظنّ أنّه من الخاطئ إعطاء وزن تفسيريّ كبير للهوية اليهوديّة للجيل الأول من منظرّي مدرسة فرانكفورت، لا شكّ أنّ الجماعات تفتقدُ لقيم التكافل والتّضامن في ظلّ ظروف الإقصاء الاجتماعي أو الاضطهاد وفي ظلّ مناخ الهوية الثقافية المشتركة، لكنّ هذه الروابط ليست أبديّة؛ بل هي عارضة contingent تاريخيًا وتتغيّر بمرور الزّمن، كما أنّه لا يوجد جوهر للهوية يعبّر عن نفسه في الفكر.
تعتبر أطروحة مايكل لوي عن التآلف الانتقائيelective affinity نافعة؛ لأنّها تذكّرنا بالأسباب الإجتماعية الصَرْفة التي دفعت العديد من مفكّري أوروبا الوسطى من أصلٍ يهوديّ إلى الانخراط في السياسة الراديكاليّة أو الاشتراكيّة، عضد هذا التآلف تقليدًا طويلاً ومتنوّعًا من هاينه Heine إلى ماركس ولوكسمبورغ على سبيل المثال لا الحصر، والقائمة طويلة فعلاً، لكن ظروف الإقصاء الإجتماعية لم تعد موجودة كما كانت من قبل، وكذلك الظروف التي دعمت سابقًا هذا التآلف. وعمومًا، لست من أنصار الهوية: إنّها تصوغ روابط الاتّصال لكنها ترسم الحدود أيضًا، ويصعب على المرء أن يتجنب منطق التباين contrastive logicفكلّ تضمين inclusion يستلزم الاستبعاد؛ لهذا أقول: أنّه في ظلّ ظروف التعدديّة الحديثة نجدُ أنّ التعلقات الهوياتيةidentitarian attachments لها تأثيرات متناقضة، ومع تحدي المواجهة مع الاختلاف تصبح هوياتنا الخاصّة نسبيّة، وتغدو حدودها مَسَامِيّة (يريد قابليّة نفاذ الآخر إليها)*ولهذا تبعات مهمّة على تفكيرنا في أنفسنا: في إدراكنا لأهميّة الروابط الجماعيّة، وفي إدراكنا أنّ التعدديّة الاجتماعيّة تعمل علينا من الداخل.
(*) المترجمة
إنّ الذات متعددة كما أنّ الحقيقة الموضوعيّة للتعدديّة الاجتماعيّة تفترضُ نوعًا من العلمنة الداخليّة شئنا أم أبينا، عمومًا، إنّ الروابط المقدسة للمجتمع لا يمكن أن تظلّ كما كانت في السابق، كما أنّ التحرّر من الهوية الجماعيّة يبدو -في نظري- ضرورة ملّحة إذا كنّا نرغب في ألّا تتحول مواجهة الاختلاف إلى ما يسمّى بصراع الحضارات clash of civilizations.
جوناثان كاتلين: أنا مهتّم بالنّظر في علاقة المنظّرين بالدين اليهوديّ Judaism والهوية اليهوديّة Jewishness باعتبارها غير هوياتيّة أو ما سمّاه إريك أوبريل Eric Oberle اللاهويّة non-identity.
لقد رسم الفنان الألمانيّ فيلكس نوسباوم اليهودي لوحة: اليهوديّ التائه كغلاف لكتابك، ويلوح أثر الهولوكوست في خلفية دراستك، إنّ الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت قد اتحدوا في التجربة إذ عانوا ويلات النفي والاقتلاع، وإذ تشاركوا هموم النضال من أجل معاداة الساميّة، أعتقد أنّك محقّ في ادعائك أنّ أدورنو لم يكن يعتبر نفسه عضوًا منتميًا للوسط اليهوديّ، ومع ذلك نجده متضامنًا مع ضحايا الحرب في آرائه التي كتبها حول الهولوكوست–ما بعد الحرب- ومع ذلك فقد اقتبست من رسالته إلى والديه عام 1943 إذ قال: “أنا يهوديّ تمامًا، ليس يشغلني إلا معاداة الساميّة” كما نجد أنّ أدورنو و هوركهايمر كانا منشغلين في ذلك الوقت بالمسألة اليهوديّة، هل ترى إمكانيّة قيام نماذج نقديّة لمسألة الهوية identificationكما نجدها في تجربة المنفى التي لا تتجذر بالضرورة في نماذج الهوية العرقيّة- القوميّة؟
إذ أنّك بشكل وثيق، تنتقد الميل إلى تضمين أدورنو في أصول الفكر اليهوديّ الحديث، ومع ذلك يعقدُ كتابك مقارنةً بين أدورنو في negative dialectics وبين موسى بن ميمون في the negative theology، هل تعدّه مفكّرًا قوميًا أم مفكّرًا يهوديًّا؟
بيتر جوردن: هناك العديد من القضايا هنا، أنت محقّ بالطبع في التمييز بين الأشكال العرَضِيّة للهويّة، وبين حقائقها شبه الأبديّة quasi-eternal، إنّه تمييز أنيق، وهذا ما قصدته من قبل عن الظروف الاجتماعية للتضامن، لكن هذا التمييز ليس راسخًا: فالهوية يمكن تطبيعها بسهولة، وتتجسد في كيان واحد، أو تبدو طبيعيّة ثم تصبح هوية، حتى “الهوية السلبية” قد لا تفلت من هذه المشكلة.
لم يكن أدورنو يهوديًا لا اقتناعًا ولا ممارسة، على الرغم من نشوئه في وسط يهوديّ ألمانيّ، حتى أنّ حقيقة إرث والده اليهوديّ قد حددت مصيره عند دخول القوانين العنصرية النازية حيز التنفيذ، ومع ذلك من المهم ألا نسعى إلى فرض هوية جماعيّة عليه -بأثر رجعي- كان سيتنازل عنها كمسألة مبدأ فلسفي.
اليهودية Jewishness هي مصطلح للرابطة العرقيّة القوميّة، وأخشى أنه لا يليق وصفه: بالمفكر القوميّ، فأدورنو كان متناقضًا للغاية، ولم يرحبّ بمثل هذه الروابط القوميّة؛ فقد طوّر في سنواته الأولى عداءً قويًّا تجاه الهويّة الجماعية، إنّ أدورنو مدين لكيركجارد في هذا الأمر؛ حيث شجب الأخير اللاعقلانيّة والتبعيّةالامتثاليّة conformism للعالم المسيحي البرجوازيّ، ومع ذلك، فإن تجربة الاضطهاد والنفي يتم تناولها في عمله كوحدة فلسفيّة Philosophème، كصورة للسلبيّة، وكشرطٍ لإمكانيّة النقد.
تتحدث سلسلة المحاضرات في جامعة ييل عن مواضيع في الفكر اليهوديّ الحديث، على رأسِها طرح بعض المراجعات حول مسائل في الدين اليهوديّ والفلسفة اليهوديّة، حيثُ أجد المقارنة بين أدورنو وموسى بن ميمون مثيرة للاهتمام: الديالكتيك السلبي negative dialectics يحمل بعض التشابه مع اللاهوت السلبي negative theology (وقد استكشف زميلي جيمس جوردون فينلايسون المقارنة من خلال النظر إلى Pseudo-Dionysius، وهو شخصية مهمّة في تقليد اللاهوت السلبي، ولكن، في النهاية، أودّ أن أقول إن المقارنة لا تصمد أمام البحث: يتبع موسى بن ميمون via negativa لتحريرنا من الوثنيّة والوهم حتى نصل إلى فهم صحيح للإله، يتابع أدورنو الـ via negativa لتحريرنا من أوهام الأيديولوجيا، مستخدمًا الطاقات النقدية للسلبي دون قيود: يلاحقها مباشرة في قلب اللاهوت نفسه حيث يحلّ الموضوع الميتافيزيقي،كان يبغض فكرة أن هذه السلبية negativity ليست سوى لحظة عابرة على طريق تسوية الخلاف.
جوناثان كاتلين: وظّف المنظرون النقديون الثلاثة الذين ناقشتهم الأفكار اللاهوتية لزعزعة الطبيعة الظاهريّة، ولزعزعة النظام الاجتماعي العارِض والفاسد؛ لقد رأوا أنّ التطلّع إلى أفق عالم آخر ممكن أمر نافع بل ضروريّ، من أجل تحدي “التأكيد affirmation الإيجابي لما هو معين، و تحدّي التأكيد الإجباري لما هو موجود بالفعل”.
كما قال هوركهايمر في خطاب إذاعي عام1967: “المسيحيّة والماركسيّة ليستا متعارضين بل تشتركان في الوظيفة النقديّة المتمثّلة في جعل ما يحدث في الوجود نسبيًا؛ إنّ المسيحية تجعل الوجود نسبيًا ومحدودًا على عكس الإلهيّ؛ أما الماركسيّة الماركسية الوجود نسبيًا باعتباره مرحلة في ما قبل التاريخ prehistory على عكس المستقبل الاشتراكي “.
إنّ جوهر الدين كما كتب هوركهايمر في مقدمته لـ Jay’s The Dialectical Imagination: “هو التّوق إلى الآخر، والأمل بأنّ الآلام والمخاوف الأرضيّة لن تكون لها الكلمة الأخيرة”.
من وجهة نظرك، إنّ هوركهايمر مثل بنيامين حيث يذهبان بعيدًا ويبتعدان عن النقد الأصيل، إنّك تفضّل موقف أدورنو الأكثر جدليّة ديالكتيكيّة عند نقطة المفترق ما بين المقدّس والمدنّس، الذي يتنقل بين نوع الإلحاد الدوغمائيّ الميتافيزيقي الذي انتقدته في أعمال مارتن هاجلوند Martin Hägglund، وإعادة التقديس الرجعي للعالم وهو الأمر الذي اتّهم به أدورنو الوجودية، قائلًا: “إنها رطانة الأصالة” jargon of authenticity.
قال أدورنو: “إنّ العلمنة تصون علم اللاهوت في نقده لها” مما دفع البعض إلى الادّعاء بأن الديالكتيك السلبي negative dialectics يشكّل: “علمًا لاهوتيًا يهوديًا علمانيًا” بينما تجادلُ بأن الإشارات الاهوتيّة في فكر أدورنو هي ببساطة “مفاهيم”؛ لأنّ النقد العلماني في النهاية سيعطي الكلمة الأخيرة: “اللاهوت السلبي يكمل نفسه في الديالكتيك السلبي”.
من خلال عمل أدورنو، يمكنك تحديد قاعدة مُتعالية للتفكير النقدي: “نحن مضطرون إلى افتراض جميع وجهات النظر -على الأقل من الناحية المفاهيميّة- حتى تلك التي تم التخلّي عنها؛ من أجل نقدٍ فاعل”.
هل هذا القول لا يزال قائمًا حتّى اليوم؟ وما هي آثاره على الفكر المعاصر؟
بيتر جوردن: كان هوركهايمر فيلسوفًا شديد الدّقة والحنكة، لكن في نهاية حياته أدّت التشاؤميّة pessimism التي استوعبها في سنواته الأولى من شوبنهاور إلى تثبيطه عن التسليم بإمكانية حدوث تحوّل جوهريّ في المجتمع، لقد استسلم لنوع من القَدَريّة fatalism الذي جعله يعتقد أنّ الدين هو البديل الوحيد القابل للتطبيق، حتى لو كان محقًا في أن المفهوم اللاهوتي لـ wholly other”: يقف في مواجهة الرعب الأرضيّ، ليس واضحًا لماذا يمكن لهذا المفهوم أن يقدّم
علاجًا للفظائع التي أحدثناها هنا على الأرض، تؤدي أفكاره حول هذه المسألة إلى نفس المعضلة Aporia كما رأينا عند بنجامين: إنه يلجأ إلى مبدأ متعالٍ transcendent principle كحل للأمراض الاجتماعيّة التي يجب معالجتها بشروط مُحايثة immanent term بينما أدورنو كان أكثر حرصًا : فهو يدرك أنّ اللاهوت ليس علاجًا لمشاكلنا، ولكنه يعتبره مفهومًا يوفر ميزة نقدية يمكن من خلاله رؤية تلك المشاكل؛ لهذا السبب أعتقد أنّه من المضلل أن يصف مارتن هاجلوند Martin Hägglund أدورنو “كمفكّر ديني”.
التحدي هنا هو التفكير مع التقليد الهيجلي اليساريّ، بأسلوب ديالكتيكيّ حقيقيّ من خلال تجنب التعارض الشديد بين ما هو ديني وما هو علماني، كما لو كانا مجالين نقيين وقابلان للفصل كليًّا، إنّ إشارة gesture العلمنة كما تظهر في الفلسفة تتخطى تلك الثنائية dualism، إنه جدليّ وديناميكيّ حقًا.
ليس لدي الجرأة لاقتراح ما قد يعنيه هذا للفكر المعاصر، أودّ فقط أن أقول على خطى هابرماس، إنّ العلمانيّة لا يجب أن تكون علمانية بالمعنى الدوغمائيّ، لأنّ الأطر العلمانية للحكومة تبدو وسيلة مفيدة للسماح بفضاء من التعايش بين المواطنين متدينين أو غير متدينين، إنّ أيّ حجة فلسفيّة لـ “العلمانية” يجب أن تحترم هذا المبدأ ولا ينبغي أن تتجاهل الحقيقة التجريبيّة للشّرط العالميّ للتباين العرقيّ والدينيّ،كثير من الناس على هذا الكوكب متدينّون، قد نجد هذا مؤسفًا أو جيدًا، لكنّنا لن نذهب بعيدًا إذا افترضنا المقدّمة المنطقيّة Prémise بأنّ الإلحاد الراديكاليّ هو الحقيقة المطلقة للقضيّة، بينما نحن نرفض الإيمان باعتباره أكثر من خطأ ميتافيزيقي، إنّ ترانيم هايدجر حول محدوديّة الإنسان ليس لها تأثير يذكر على السؤال العملي، حول كيفية هيكلة مؤسساتنا السياسيّة هنا، بحيث تكون أكثر شموليّة وعدالة اجتماعيّة.
جوناثان كاتلين: قد يُفاجأ البعض باستنتاج كتابك: يظهر أدورنو -وهو مفكر سيّئ السمعة لتشاؤمه-،كالأكثر تفاؤلاً بين الثلاثيّ؛ حيثُ شَرَعَ بنجامين وهوركهايمر أبوابهم “أمام شكّوكيّة skepticism معطّلة حول إمكانيّة الحياة الحديثة” بافتراض “الدّين كحلّ وحيد لمحننا الاجتماعية” وبالتالي افتراض عجز معياري normative deficit لا يمكن تصحيحه إلا بقطيعة مسيحانيّة أو من خلال: the wholly other، وعلى النقيض من ذلك فقد اعتمد أدورنو على الأفكار اللاهوتية ولكنه في النهاية “حافظ على الالتزام بالمبدأ القائل: بالخلاص الديالكتيكيّ للمجتمع العلماني من الداخل” من خلال النقد العلماني، هل يمكننا أن نطلق على أدورنو الملحد المتفائل؟
بيتر جوردن : ربما أقاوم الافتراض القائل بكونه: مفكر متفائل أو مُتشائم؛ لأنّه أعقد من أن تنطبق عليه هذه العبارات. إذا كان أدورنو معروفًا بتشاؤمه؛ فهذا لأنّ الفهم العام يفتقد لإدراك ما هو مُبهج في أعماله، حاولت أن أناقش هذا الأمر في كتابي “Adorno Lectures in Frankfurt”. لم يرً أدورنو العالم بشروط غنوصيّة،كمن يسقطُ في الظلام الحالك، ومن الخاطئ رؤيته كمفكّر متناقض متجّهم، أو “كميتوسيفيليس” عصريّ(*)لا يستطيع أن يؤكد بل قدرته تكمن في النّفي فقط. إن صورة أدورنو هذه تتكرر في كل مكان، وهي غالبًا ما تتشابك مع وسوسات النخبَويّة Elitism والثروة، التي تعيد إحياء المعجم القديم الخاص بمعاداة الساميّة، وهذا كلّه بعيد عن الدّقة، ولعل الأسوأ من ذلك الادعاء المتكرر في أنّ معاييره الجمالية الصارمة لا يمكن أن تأتلف مع تطلّعاته السياسيّة. وهذا الادعاء مخطئ؛ فالمعايير الجماليّة والتطلّعات السياسيّة يتلتحمان معًا كلحظتين في صورة واحدة لإنسانية مزدهرة، وهذا ما يشرحه إيان ماكدونالد Iain Macdonald ببراعة في كتابه الأخير، على الرغم من سلبيته النقديّة التي أمسكها أدورنو لصور الإمكان الحقيقي.
لقد أدرك الوعد المعياري normative promise لعالم أفضل في لحظات السعادة البشريّة وفي أعمال الفنّ الحديث، بل أيضًا في تجربتنا المتجسّدة embodied experience ككائنات طبيعية.
جوناثن كاتلين : يقدم كتابك رده الخاص على إشكالية “العجز المعياري” normative deficit للحداثة العلمانية. بالرجوع لهابرماس، تَعتبرُ مصادرَ المعيارية “أيديولوجيةً وفي نفس الوقت أكثر من أيديولوجية” (14).
ينتقد طرحُك “عددًا متزايدًا من المفكّرين اليساريين الذين تبنّوا موقف التخريب الذاتي self-sabotaging للشكوكية المعمَّمة” والذين “أقرّوا بالقوّة وحدها كحقيقة عليا، وينظرون إلى المُثُل القديمة للعدالة بإنكار بارد”.
إنك ترفض “النقد الأحادي للأيدولوجيا” المرتبط بفوكو ونيتشه، لصالح ” النهّج الديالكتيكي” في ظل هذه الأزمات والمعاناة المنتشرة اليوم –مقتربًا من للنّظرية النّقدية- وتقتبس من محاضرات أدورنو عام 1965 حول الميتافيزيقا، أنّ “واحدًا من أخطر الأخطاء التي تتخفّى في الوعي الجمعي collective consciousness هو أن نفترض أنّ الشّيء الذي لا يفي بوعوده، ولا يفي بمضمون مفهومه، أسوأُ من ضدّه، إنّ هذه الآنية المحضة pure immediacyهي ما تدمّره”.
(*) رئيس الشيطان في أسطورة فاوست (المترجمة)
كيف يمكن أن توفّر المفاهيمُ الدّينية المُعلْمَنة التي تناقشها النماذجَ للتمسُّك بمُثُل التنوير في عصر الشّكوكية وخيبة الأمل؟
بيتر جوردن : لقد كتبتُ في مكان آخر عن مشكلة العجز المعياري في الحداثة، فالمجتمع الحديث يعاني من ندرة المعايير الأخلاقية السياسية التي ربما يكون الدين وحده علاجًا لها، كان ماكس ويبر Max Weber أحد أهم دعاة هذه الفكرة، وبالرغم من أنّه لم يكن مصدرها الوحيد، فقد تمتع بامتداد ملحوظ في النظريّة الاجتماعيّة التي صاحبت نظريّة العلمنة مثل الظّل، تحظى أصول العلمانيّة الآن بشعبيّة مثيرة للفضول، وأظن أن هذا أمر جيّد إلى حدّ ما.
يمكن أن تعمل الجينيالوجياكأداةٍ حاسمةٍ مهمةٍ، بقدر ما تُربك المسلّمات المريحة وتكشف التناقضات في مُثُلنا عندما توضع قيدَ التطبيق، لكن الجينيالوجيا (أحادية الاتجاه) التي تصبح مجرد تمرين للتفكيك الشكوكيّ skeptical dismantling قد تفرض حدودًا خطيرة.
لا يمكننا أن نتحرر من الحاجة إلى السّعي من أجل مُثُلنا السياسية، حتى حينما ندرك كيف تتشابك المُثُل في الأيديولوجيا، إنّ الجينيالوجيا نمط من أنماط النّقد: فهي تكشفُ التُنافر بين المُثُل والممارسات، ويُحرّكها الغضب عندما لا ترقى ممارسةٌ معينة إلى مفهومها، لكن ينبغي لكلّ نقد أن يوضّح المبادئ المعياريّة التي تحرّكُه، ومن المهمّ ألا نتجاهل مهمّة التسويغ الفلسفيّ، فتقليد النظريّة النقديّة المنبثق من مدرسة فرانكفورت مفيدٌ بقدر ما يحافظ على الجدلية (المُسلّم أنّها لم تُحل) بين التسويغ المعياري normative justificationوالنقد الاجتماعي social critiqueفالإصرار على الاختيار بين هاتين المهمّتين سيكون خطأ فلسفيًّا.