إذا كان المرحوم أبو القاسم حاج حمد، المفكر السوداني المعروف، قد اعتمد على اطلاعه الموسوعي في المكتبة السودانية وعلى ترسانة عقلية نادرة في إخراج كتابه المميز والمركزي في التاريخ السوداني “السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل”، فإن الراحل البروفيسور عبد الله حمدنا الله والذي توفى في هذا الشهر أكتوبر 2022، كان أكثر تميزاً في دراسة التاريخ السوداني ليس باطلاعه الموسوعي فقط وإنما بتميزه الفائق في البحث عن المصادر الرئيسية من مخطوطات ومقالات صحفية ورقية وغيرها من طرق البحث المتعارف عليها عند كبار المؤرخين وعلماء الاجتماع.
حاول أبو القاسم حاج حمد أن يضع أطروحة وسردية يفهم من خلالها كل التاريخ السوداني، وهو ما جعله في بعض المواطن يفسر الواقع بما يتماشى مع أطروحته وليس بما كان واقعاً وحقيقة، مثله مثل كثير من المفكرين أصحاب الأيدولوجيات الكبرى والتحيزات من اليمين واليسار. أما البروفيسور عبد الله حمدنا الله فلم يكن مشغولاً بهذا السعي وراء بناء نظريات كبرى لتفسير الواقع والتاريخ، فالواقع أكبر وأعقد من أي نظرية وسردية، وإنما شغل نفسه بدارسة الواقع الاجتماعي كما هو من المعمار السكني ومن الثقافة الأدبية ومن الشعر بل حتى من الغناء الشعبي. عندما تقرأ لأبو القاسم حاج حمد فإنك تتعلم التاريخ السوداني وتتعلم معه أطروحة أبو القاسم في فهم هذا التاريخ، أما عندما تقرأ للراحل البروفيسور حمدنا الله فإنك تتعلم التاريخ السوداني وتتعلم معه منهجية رصد التاريخ وتحليل الظاهرة الاجتماعية. وإذا كان الراحل منصور خالد قد جعل النخبة السياسية السودانية والفضاء السياسي محط اهتمامه وتركيزه، فلا عجب أن يسود في خطابه التشاؤم والنقد اللاذع.
لذلك عندما تكثر القراءة لمنصور خالد ستمتلئ بأفكار “خيانة المثقف” و”فشل النخبة” و”فشل الدولة” وكلما هو شديد الاتصاف والالتصاق بالدولة الحديثة والنخبة الاستعمارية في العالم العربي والأفريقي. لكنك عندما تقرأ للراحل عبد الله حمدنا الله الذي جعل المجتمع والثقافة موضوعه الرئيسي ستتعرف على الثراء الفكري والثقافي والأدبي في المجتمع السوداني والمجتمعات العربية والأفريقية، ستتعرف على أن جهود الإصلاح المجتمعي فيها المقتصد وفيها السابق بالخيرات، فيها الصعود والهبوط وفيها النجاح والفشل. كان الراحل عبد الله مهموماً بالمجتمع في المقام الأول لا السياسة ولا نخبتها، لذلك كان غنياً في المفاهيم والمعاني ودروس المستقبل.
وإذا أردت وصفاً معاصراً للفرق بين خطاب ودروس التاريخ عند منصور خالد وعند حمدنا الله فتخيل مؤرخين يكتبان عن “ثورة ديسمبر 2018” أحدهما يقرأ هذه الثورة عبر تحليل أداء النخبة السياسية مثل قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري والمؤتمر الوطني، والآخر يقرأ ويحلل هذه الثورة عبر النظر في الفئات المجتمعية التي شاركت في هذه الثورة من شباب ونساء وأبناء ريف ولجان مقاومة وغيرها. فرق كبير بين المنهجين، أليس كذلك؟
هذا السعي الجاد لفهم الظاهرة الاجتماعية وتحليل الواقع الاجتماعي كما هو في الحقيقة مع عدم الاهتمام بالسرديات الفكرية والأيدولوجية جعل للبروفيسور عبد الله حمدنا الله إضافة حقيقة في الدراسات السودانية والدراسات الإسلامية والدراسات الأفريقية لا تقبل المزايدة ولا تقبل التشكيك. وهذا الاستقلال المنهجي والفكري جعل الراحل يتحدث ويدافع بكل قوة عن الثقافة الإسلامية كجزء ومكون رئيسي من الثقافة السودانية فكتب رسالته في الدكتوراه عن “أثر الحركات الدينية الإسلامية في تطور الشعر في السودان” وكتب عن الإسلام واللغة العربية في تشاد وغيرها من الدول الأفريقية. لم يكن البروف حمدنا يرى أن الثقافة السودانية يمكن أن تختزل في الثقافة الإسلامية، ولا أن الثقافة الإسلامية محتاجة ابتداءً لأن تتجسد في الثقافة السودانية، فهما عالمان كبيران قائمان بذتهما ومتداخلان في ذات الوقت ويثري كلٌ منهما الآخر. وهذا الاستقلال المنهجي والفكري لم يجعله يتردد في أن يُصرح في عدة مرات بأن حكومة الإنقاذ لم تمتلك مشروع ثقافي ولم تطرح أصلاً مشروعاً ثقافياً، مع اعترافه بوجود مجهودات فردية.
وفي المجال العام والعملي، خارج نطاق الفكر والثقافة، كان البروف حمدنا الله أحد المؤسسين لمشروع “الخرطوم عاصمة الثقافة العربية” وجائزة “الطيب صالح العالمية” ومسابقتها، ومشروع “(100) كتاب في الثقافة السودانية” وغيرها من المشاريع الفكرية والثقافية. كما كان المرحوم مهتماً بالانخراط في الجدل المجتمعي وتعريف الناس بمجتمعهم عبر تحليل موضوعات شعبية منتشرة مثل حديثه عن أن مدينة أم درمان هي “مدينة مصنوعة” وتحليله ونقده “لأغاني الحقيبة” بل حتى دراسة التاريخ السوداني الاجتماعي عبر تطور وتاريخ “غناء البنات”.
لقد كان الراحل عبد الله بلا أدني شك أحد أهم المؤرخين وعلماء الاجتماع السودانيين في العقود السابقة، رحمه الله وغفر له وجعله من المقربين ومن أصحاب اليمين. أرجو أن يهتم الناس والمثقفين وطلاب العلم بتراث وكتابات البروف حمدنا الله، وأن يسعوا إلى نشر كتبه ودراسته وجعلها متاحة لعامة الناس فهي غائبة وصعبة المنال. وأتمنى أن يأخذ البروف وانتاجه الفكري مزيدًا من الاهتمام والتحليل.