أذكر جيداً أيامي الأولى في دراسة الماجستير بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية بعد أن أكرمني ربي بمنحة القادة الأفارقة لدراسة التنمية والاقتصاد السياسي بتلك الكلية العريقة. وأذكر جيداً الرهبة والقلق الذي كان يتملكني قبل شهور من بداية الدراسة وتساؤلي المستمر عما إذا كنت سأستطيع أن أدرس ماجستير في تخصص دراسي/عملي جديد ولا أمتلك فيه أي معرفة مسبقة أو تدريب عملي. هذا القلق ارتفعت وتيرته بعد محاولاتي للقراءة في بعض الكتب المنهجية في التنمية قبل بداية الدراسة بشهر، فقد زادت لغة تلك الكتب وطريقتها التقنية والمتخصصة من انطباعي بصعوبة التنمية كمجال. أتذكر جيداً كذلك أول أسبوع دراسي في الجامعة والتعرف الأول على هاجون تشانغ، أستاذ الاقتصاد بجامعة كامبريدج وقتها، ودراساته. أتذكر جيداً سهولة استيعاب الأوراق العلمية التي كتبها هاجون تشانغ مع عمق أفكارها وقوة حجتها، ناهيك عن كتبه العامة التي كانت أكثر تبسيطاً وسهولة في الفهم. ومنذ أيام الماجستير الأولي، أكسبني هاجون تشانع ثقة عالية بأنني أستطيع فعلاً أن أفهم التنمية والاقتصاد، وأن المسألة ليست بذلك التعقيد أو الصعوبة التي يحاول الاقتصاديون عكسها لعامة الناس!
اكتشفت لاحقاً بأن تشانغ كان شديد الشغف والاهتمام بتثقيف عامة الناس حول قضايا التنمية والاقتصاد والتحرر الوطني التنموي وتجربة النهوض الآسيوي عبر منهجية “الدولة التنموية” بلغة بسيطة مفهومة وعبر كتب أصبحت جزءًا من الأدبيات العامة في الثقافة الاقتصادية والتاريخية حول العالم. على سبيل المثال فقد كتب هاجون ثلاثة كتب رئيسية نالت شهرة واسعة وسط غير المتخصصين في الاقتصاد والتنمية وهي: كتاب ” 23 حقيقة يخفونها بخصوص الرأسمالية Things They Don’t Tell You About Capitalism 23″، وكتاب ” السامريون الأشرار: أسطورة التجارة الحرة والتاريخ السري للرأسمالية Bad Samaritans: The Myth of Free Trade and the Secret History of Capitalism”، وأخيرًا “دليل المستخدم لفهم الاقتصاد Economics: The User’s Guide”. وتقريبًا تُرجم الكتاب الأول والثاني إلى العربية، وسررت جداً عندما علمت بأن الأصدقاء بدار مدارات للنشر يقومون الآن بترجمة الكتاب الثالث إلى العربية. أيضاً، فقد ترجمت هذه الكتب إلى لغات أخرى مثل الإسبانية والإيطالية والفرنسية والألمانية وغيرها من اللغات. كان تشانغ مشغولاً بتحرير مجال التنمية من ضيق الأروقة الأكاديمية إلى فضاء الثقافة العامة، ويمكننا القول بأنه كان واعياً بنصيحة الإمام مالك رضي الله عنه والتي قالها لهارون الرشيد حينما طلب منه هارون الرشيد تدريسه في قصره، فرفض مالك وقال له: ” يا أمير المؤمنين، إن هذا العلم لا يفسد حتى يكون للخاصة دون العامة” ثم طلب منه أن يحضر لدرس الموطأ في المسجد.
هذه القدرة لهاجون على الكتابة بلغة سهلة وفي متناول القارئ غير المتخصص، حتى في الأوراق الأكاديمية هو أحد الأسباب التي دفعتنا للترجمة له، بالإضافة إلى سعينا لتغطية بعض الكتابات والدراسات التفصيلية والمفهومة في ذات الوقت لهاجون والتي لم تنل حظها من الاهتمام والترجمة. ولعل من الأسباب التي دفعت تشانغ للكتابة بلغة سهلة ومقروءة للجميع، بالإضافة إلى اهتمامه بكتابة كتب لغير المتخصصين هو اعتقاد تشانغ بأن الاقتصاد هو مجال للجميع وليس لنخبة متعلمة ضيقة. حيث يرى هاجون بأن “95% من مفاهيم الاقتصاد هي أفكار بدهية، بالرغم من أنها قد تبدو صعبة وغير مفهومة بسبب استخدام المصطلحات المتخصصة والنماذج الرياضية. وحتى الـ 5% المتبقية هي مفاهيم قابلة للفهم في جوهرها، حتى لو لم نفهمها بالتفصيل، فقط إذا تحمل أحدهم عناء شرحها للناس بالتبسيط الكافي… أعتقد بأن هذا التصور الشائع بأن الاقتصاد مجالٌ صعبٌ ومعقد سببه أن الاقتصاديين قد حققوا نجاحًا مذهلًا في جعل الكثير من الناس يعتقدون أن هذا المجال أصعب بكثير مما هو عليه في الحقيقة”.
أخيراً، فمن أهم مميزات تشانغ مقارنة بغيره من المنظرين للتنمية اهتمامه الشديد بالتاريخ والمنهجية التاريخية في النظر لقضايا التنمية وانتقاده الصارم للمدرسة “النيوليبرالية” وتجارب التدخلي الغربي في تنمية الدول النامية التي قادها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وكيف أن الغرب يكيل بمكيالين حتى في التعامل مع قضايا التنمية والتحرر الوطني. حيث غاص هاجون في التاريخ الاقتصادي للدول المتطورة اليوم في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية (مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا والسويد وسويسرا وغيرها) في بدايات نهضتها الاقتصادية ووجدت أن هذه الدول استخدمت نفس السياسات الصناعية التي استخدمتها دول شرق آسيا والتي تنتقدها المدرسة النيوليبرالية اليوم مثل سياسات حماية الشركات الناشئة ومثل الجمارك المرتفعة، ودعم مدخلات الإنتاج وغيرها من سياسات التدخل الكثيف للدول في إدارة السوق والاقتصاد. ثم جادل تشانغ في أشهر كتبه على الاطلاق بأن خطاب هذه الدول والمؤسسة الدولية الداعمة للمدرسة النيوليبرالية يقوم بـ”ركل السلم بعيدًا Kicking away the ladder” أي أن هذه الدول بعد أن صعدت إلى قمة التنمية والنمو الاقتصادي عبر “سلم” السياسات الصناعية وعبر تدخل الدولة في الاقتصاد، تقوم الآن “بركل السلم بعيداً” عن الدول النامية وتخبرهم بأن يبتعدوا عن هذه السياسات الصناعية. على سبيل المثال يذكر هاجون تشانغ بأن متوسط معدلات الجمارك على المنتجات المصنعة قد وصلت إلى 46% في ثلاثينيات القرن الماضي في دولة إيطاليا. أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد بلغت النسبة 50% في سبعينيات القرن التاسع عشر ثم انخفضت قليلًا إلى 37% في العام 1925 ولم تلبث إلا أن زادت مرة أخرى في العام 1931 لتصل إلى 48%. أخيراً، فحتى في بريطانيا، فقد بلغ متوسط الجمارك 45-55% في عشرينيات القرن التاسع عشر وحتى بعد أكثر من مئة عام من ذلك انخفضت النسبة إلى النصف فقط تقريبًا لتبلغ 23% في العام 1950. ولحسن حظ القارئ العربي فإن هذا الكتاب المركزي لهاجون قد تُرجم للغة العربية في العام 2007 مع تقديم د. مصطفى الرفاعي، وزير سابق للصناعة والتنمية التكنولوجية في مصر.
يحتوى كتاب “الدولة التنموية: البديل للنيوليبرالية واقتصاد السوق-الحر في المنهج، والرؤية، والسياسات العامة” على أربعة دراسات مركزية ومهمة لهاجون تشانغ تغطى الجوانب المنهجية والاستراتيجية والسياسات العامة للتنمية كما يراها هاجون تشانغ وكما طبقتها دول آسيا الناهضة (اليابان، كوريا الجنوبية، تايوان، ماليزيا، إلخ)، كما يتضمن الكتاب أربعة دراسات أخرى كملاحق تغطى وتستدرك على دراسات هاجون تشانغ في عصر الاقتصادي الحالي الذي تسود فيه سلاسل القيمة العالمية، مع تقديم لمنهجيات مهمة أخرى في دراسة التنمية مثل منهجية التسويات السياسية بين النخب Political Settlement وأخيراً مناقشة قضية اللامساواة الاقتصادية وكيفية التعامل معها لبناء نموذج تنموي يقوم على العدالة الاجتماعية والاقتصادية. لتأطير كل هذا العمل قمت بكتابة دراسة كمقدمة تحريرية للكتاب تحت عنوان “الدولة التنموية في القرن الواحد وعشرين: التطور التاريخي، والمنهجية المغايرة، والتحديات المعاصرة”.
الكتاب كان متوفراً بجناح مدارات للأبحاث والنشرR27 في معرض جدة للكتاب 2023م، ولكن نفذت الكمية المعروضة، وسيتوفر بإذن الله في باقي المعارض الكتب القادمة.
خالد عثمان الفيل، محرر ومقدم كتاب “الدولة التنموية”.