– تختبيء بعض الأنساق الثقافية احياناً في لغة الحياة اليومية ، وهذه الانساق إذ تظهر على السطح في شكل لغة وخطاب شائع فهي قد مرت بسيرورة ترسيخ طويلة في اللاوعي الجمعي – حسب مصطلح دوركايم – بأدوات معينة ، فنجدها متداولة على كونها مصطلحات عادية ، محايدة خالية من أيّ رؤية كونية او نسق كامن او متتالية نماذجية آخذة في التحقق – حسب مصطلح المسيري -، و جريان هذه اللغة المعينة في الألسن يمثل انعكاساً على مدى ترسخ تلك الانساق المُنتجة لهذه اللغة.
– ولعل فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي مجال خصب – بالاضافة لمجالات اخرى – لملاحظة هذه ” اللغة ” ، خصوصاً في النقاشات ذات الوطيس الحامي المُحدثة للضجيج ، فهي ليست مجرد وجهات نظر تتحاور وتتناقش فقط ؛ كما يبدو ظاهراً بل هي ايديولوجيات ورؤى تتدافع ضمناً ، و إن صبغها البعض بغطاء وجهات النظر -هذه الكلمة الباردة المحايدة التي تجعل كل الآراء على قدم المساواة وان كانت فارغة المضمون سيئة القيمة- وتتبدى هذه الكلمات /اللغة في القضايا الغير واضحة الحسم عادةً أي ليس عليها إتفاق عام في الحكم ، حينها فقط تظهر تلك الانساق في الكلمات البريئة ظاهرياً ، ولا تظهر في القضايا المحسومة بقدر كبير في مجتمعاتنا كقضية “شرعنة المثلية مثلاً قبل فترة في امريكا ” ، فلا تظهر تلك الانساق الا في لغة بعض القلائل بالنسبة لسواد المجتمع، ما يهمنا هنا هو ظهور هذه الكلمات في الحوارات العادية والقضايا التي يكون الحُكم فيها اكثر خفاءً مقارنة بتلك الاولى، والقيمة المركزية إن جازت التسمية التي تُهيمن على هذا العصر و تحكم إطاره الناظم لدرجة تقريبها من القداسة تقريباً ميتافيزيقياً لا برهان عملياً عليه، هي قيمة “الحرية ” ، ولسنا هنا بصدد تعريف المصطلح او توضيح الفروقات فيه حين انتقاله من حقل دلالي الى حقل دلالي اخر ، ومن فضاء تداولي الى اخر ، فتلك عملية شاقة تحتاج الى مقاربة اولاً : سوسيو -تاريخية ، ثانياً : فلسفية ، ثالثاً : شرعية ، و لسنا كذلك بصدد ذكر مقاربات ظهور تفريعات مصطلح الحرية الذي انتج مصطلحات صغيرة عنه وهي التي اعنيها بال “لغة “.
ولكننا بصدد ذكر كيف انّ هذه الكلمات التي تحكم نظرة الفرد لذاته و للآخر وللوجود ، وجدت ارضيتها هنا في سياق ثقافي مغاير عن سياق انتاجها و واقع إجتماعي مختلف. هذا السياق خصب بالكلمات التي تحتاج تعاطياً معرفياً ، فجُمل مثل “الصواب نسبي ، و لا تمارس الوصاية ، رجال الدين ، المُقدس ، المُطلق ، و غيرها” لم تكن يوماً وليدة هذا السياق ، ولم تختفي ثنائية حق/باطل ، او صواب/خطأ ليحل محلّها ” النسبي ” ، و لم يختفي ” التواصي ” ، لتحل محله ” الوصاية ” ، و غيرها من التحولات الدلالية المرتبطة أصلاً بتاريخ اوروبا ابتداءً من تحرره من قبضة الكنيسة و ” رجال الدين ” ،انتهاءً بتحولاتها الاقتصادية والسياسية و الاجتماعية ثم الثقافية بعد ثورتيها الفرنسية السياسية و الانجليزية الصناعية مرورا بالسيولة في المبادئ و المفاهيم و انتشار النظرة النسبية .
في المحاولة لفهم كيف وجدت هذه التحولات الدلالية بيئتها في سياقات اخرى غير سياقات انتاجها ، سنتجاوز المقاربات التقليدية – على صحّتها و صوابها – المرتبطة بالاستعمار و العولمة و الانفتاح الثقافي ..وغيرها ، إلى مقاربة اكثر خفاءً و أدق نظراً و هي ما سمّاه فقيه الإجتماع السياسي ” فيلب برو ” ب ” أوساط التكيُّف ” وهي : الاوساط المحتوية على افراد معينين يربط بينهم رابط مُعيَّن تجري بينهم تفاعلات اجتماعية مُعيّنة ، وهذه الاوساط تفرض نمط تفاعل معين ولها قيمها و معاييرها و ادواتها- بمعنى أن هناك شكل سلوك معين يحكم هذه الاوساط و تمر من خلاله المصطلحات و الأنساق والمعايير والقيم ..الخ – ؛فالدين وسط تكيّف ، والأسرة وسط تكيُّف ، و المدرسة وسط تكيُّف ، ومنظمات المجتمع المدني المحلية منها او الدوليّة اوساط تكيُّف ، والترسانة الإعلامية سواء للدولة او اي منظومة غيرها تخلق حالة ” تكيّف ” لما تريده ، و الاتجاه العام بما يسمى التنمية المستدامة وسط تكيّف لنمط معيّن من التنمية لا يرتبط الا بالرأسمالية ، ومسابقات البيزنس اوساط تكيُّف لنمط معيَّن من الاقتصاد ، و نوادي المُناظرات اوساط تكيّف، والطبقات الثقافية والانماط الاجتماعية التي تخلقها وسائل التواصل الاجتماعي على ايدي الشخصيات العامة المعروفة اوساط تكيفُّ حيث يتخلق نمط تفاعلات معين بين المتحلقين حول هؤلاء الشخصيات العامة ، وعلى ذلك قِس ،. هذه الاوساط تخلق قيمها وطرق تفاعلها و تحدد مصطلحاتها التي تحمل حمولتها الثقافية و الايدلوجية فالمصطلحات والتحوّلات الدلالية لتلك المصطلحات تحدث ببطء وشيئاً فشيئاً عبر اوساط التكيّف هذه إلى ان تصير لغة شائعة و نمط خطاب ، وقد تتلاقى احياناً معايير و قيم اوساط التكيف وقد تتناقض و قد تتفق جزئياً وتختلف في مستويات اخرى ، و المُعقّد في الامر انّ جميع هذه الاوساط تعمل في آن واحد داخل مجتمع واحد و أحياناً يعمل معظمها داخل فرد واحد ؛ فتأمّل التدفق والتدافع المهول لتأثيرات كل هذه الاوساط التي تحدثه في الفرد،وغالباً في النهاية سينطبع هذا الفرد بأكثر نمط او نمطي تكيّف تأثيراً فيه.
وليس المقصد من هذا الحديث الإنعزال عن الاوساط ، او بناء حتمية ثقافية لا فكاك منها، فهذا مما لا طاقة للإنسان به ، بل المقصد هو بناء وعي ناقد و ممحِص للأبنية التي تعمل عليه وتطبعه بقِيمها و معاييرها وانماطها ، وان تكون رؤيته واضحة حول ما هو وسط التكيّف الاساسي عنده الحاكم والمهيمن بضوءه على الاوساط الاخرى ، و لأننا نعلم انّه في هذا العصر الحديث ثمة مصدر رئيسي للقيم والانماط والابنية قادم من مركز الحضارة المادية هناك في اوروبا ، إمّا مفروضاً فرضاً او مُقلّداً تقليداً تحت سطوة الثقافة الغالبة – حسب مصطلح الشيخ ابراهيم السكران -، لأننا نعلم تماماً مصدر تلك القيم المحقونة بها معظم اوساط التكيُّف اليوم في سياقنا ، كان لِزاماً علينا ان نعي تماماً انّها لا تأتي مُحايدة او خالية من المضمون بل تأتي بحمولتها الثقافية و الاجتماعية والتي قد تتناقض في احايين عديدة مع تصوّرنا كمسلمين للوجود والانسانوالمجتمع.
و على الرغم من أنّ الثقافة العالمية الحديثة ذات الطابع الليبرالي المحض، تؤكد على ” قيمة الفرد ” و تُعلي من شأنه و شأن كينونته الخاصة في شتى الأصعدة ، وتضفي عليه طابع القداسة فيما يقارب الحق المُطلق، إلّا انها تُعد اكثر الانساق تغوّلاً على الفرد ، فباعته وهم الحرية المُتخيّلة التي قال عنها هربرتماركوز في ” الانسان ذو البُعد الواحد ” : ( حرية اليوم اشبه بان يتم تخييرك بين خيارات معدة مسبقاً لا تستطيع الخروج عنها ) ، فتغوّلت على قيمه و معاييره و فرضت نمطها على اللاوعي الجمعي المُعتقد بحريته ، فتشكّل بشكلها ، وتنمّط بنمطها ، و تحدث بلّغتها تلك القادمة من ذلك المنبع الوحيد.