يغلب في دراسة العلوم والفنون، بشتى فروعها، الولوج في أصل العلم مباشرة، سواءً على مستوى المعلمين أوالمتعلمين، ويكأنها عملية بتر أصلِ وجذورِ العلمِ عن مخرجاتها وفروعها، وما يزيد الطين بلِة كون هذا البتر يحدث في خِضم فوضى العملية التعليمية التي لا تُراعي كون تاريخ العلم جزءً أصيلًا من العلم، فبقدر إتقانه يذلل السير فيه.
ويبدو أن هذا الداء قديم، حيث اضطر الإمام النووي للشكوى من هذه الحالة، حيث قال مشتكيًا قلة علم فقهاء زمانه بأحوال الفقهاء ومراتبهم: ” إن معرفة الإنسان بأحوال العلماء رفعةٌ وزَينٌ، وإن جهل طلبة العلم وأهله بهم لوصمة وشَين.. وأما الفقهاء فإنهم أضاعوه، فضاع ما اختصوا بإدراكه من تفاوت مراتب أئمتهم في التحقيق، واختلاف خصوصهم من العلم بالتوفيق”، وما ذاك إلا بأن تعلق هذا الجزء من تاريخ العلم بتصور العلم نفسه، وهو هنا مخصوص بمعرفة رجال هذا العلم
وحالهم منه ومرتبتهم فيه .
فتاريخ العلم بمثابة المرقاةِ للداخل على العلم، والمصباحِ الذي يهديه في ظلماته، ويساعده في تخطي عقباته، بحيث يعرف ما يأتي منه وما يذر، فأنّى للشخص هذا والعلوم الكثيرة وكتبها أكثر، وعُمر الإنسان لا يكفي للإتيان على عُشر معشارها.
ولعل هذه العُجالة لا تفي بإبراز أهمية الاطلاع على تاريخ كل علم يريد المرء ولوجه ودراسته. وهذا لا يختص بعلم دون علم، فكل علم تنطبق عليه هذه القاعدة، ولنضرب مثالًا بعلوم مختلفة المناهج والمشارب؛ فهذا علم الفيزياء: كيف لدارس أن يتصور مسائله دون معرفة مراحله وتطورها، وما الفروق المنهجية بين الفيزياء القديمة والحديثة؟ بل ماهو الحد الفاصل بين الفيزياء الحديثة والقديمة؟ ومن هم رجالات هذا العلم وأعلامه؟ وماهي إضافتهم في العلم؟ وأين توجد النقلات التاريخية في هذ العلم؟ وما أسبابها؟ وما الفروق المنهحية بين كل مرحلة من المراحل؟..إلى غيرها من النقاط، فهل من يدرك هذه التصورات كغيره الذي يقصر نفسه على دراسة كتاب من هنا أو هناك، وإن زعم أن دراسته أكاديمية، وإن حصل على أعلى الدرجات فيها؟…أزعمُ أن لا، فتاريخ العلم جزءٌ لا يتجزأ من فلسفته، ولا يوجد علم، حقيقة، دون فلسفة تكمن وراءه.
ولنأخذ مثلًا آخر، بعيد كل البعد عن الفيزياء، فكيف نشأ علم الاجتماع؟ وكيف نما؟ وماهي مدارسه؟ وما الفروق المنهجية بينها؟ وما علاقته بالعلوم الأخرى وكيف تأثر بها وكيف أثر فيها؟ ومن هم رموز هذا العلم وأعلامه؟…..
وخذ ثالثًا، بالفقه الإسلامي، كيفية نشوئه، وماهي مبانيه، وكيف تكون في عصر البعثة النبوية، ثم كيف تطور، وكيف نشأت المذاهب، وكيف تطورت، وماهي مراحل تكون كل مذهب، وما علاقتها ببعضها؟ وما علاقة ذلك بالفتوى والقضاء؟ وعلاقة قوة المذاهب وانتشارها بقوة الدول وخفوتها؟ وعلاقة انتشار تلك المذاهب في بعض المناطق دون بعض؟ وكيف اندثرت بعض المذاهب وبقي الآخر؟ ..فكل مذهب قائم برأسه يدرس فيه مثل ذلك.
وبالطبع لا نعني أن تدرس تلك التواريخ مجرد الدراسة الظاهرية الساذجة الخالية من التدقيق والاستقراء الكافيين، بل نعني الغوص في تلك العلوم وقراءتها قراءةً متأنية تساعد في هضمها، ومن ثم تطويرها والتجديد ،الحقيقي، فيها، ولا يتأتى ذلك إلا للمنتهي في العلم، يذلل ذلك للشادي. وقد صوّر سارتون وعورة عملية التأريخ للعلم أحسن تصوير، حين قال: ” ثم إن تاريخ الثقافة القديمة وتركيزه على العلم، هو بالضرورة نوع من التاريخ الاجتماعي، فما الثقافة إلا ظاهرة اجتماعية، ونحن نحاول أن نرى تطور العلم والحكمة في إطارهما الاجتماعي؛ لأنه لايمكن أن توجد حقيقة خارجة، وما كان العلم ليستطيع النمو بدون المجتمع، ولهذا يتضمن تاريخ كل علم، حتى أكثر العلوم تجريدًا كالرياضيات، عددًا من الحوادث الاجتماعية…والمؤرخ لا يستطيع أن يقص القصة كلها، وأقصى ما يستطيعه أن يختار الخلافات التي لها أكبر مغزى”، فمن البدهي بعد هذا، أن الاستقصاء في تأريخ علم ما، بضم كل تلك الأبعاد المختلفة، لايستطيعه إلا مستقصٍ خبير ماهر.
وعلى الرغم من أن هذه العجالة لن تفي بإدراك عِظَم المسألة وأهميتها، إلا أنها لا تخلو من بعض الإشكالات، أخطرها: ظن المتلقي لتلك المقدمات أن هذا لُب العلم وقبته، فهي خادعة للمرء في كثير من الأحيان، صارفة له، في أحايين أُخر، من الأخذ في الجد في العلم، فهي مزلق المثقفين ومختبر الشادين. فكما أنها كالمدخل الذي يسير على هداه الدارس، فهي كذلك المُنتهى للمجدد المؤثر في العلم
وتاريخه، وكلٌ بحسبه، والله المستعان وعليه التكلان في تعليمنا ما ينفعنا والنفع بما علّمنا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله.