في تقديمه للطبعة السادسة من كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” والتي صدرت عن دار الشروق، أطلق الدكتور الراحل عبد الوهاب المسيري لقب “المجاهد المجتهد” علي بيجوفيتش بسبب الأدوار السياسية والنضالية التي لعبها في الحقل السياسي، مع المحافظة على المساهمة الفكرية الرفيعة في الحقل المعرفي. حيث لم يكن بيجوفيتش “مجتهداً” وحسب، وإنما هو “مجاهد” أيضاً، فهو “مفكر ورئيس دولة، يحلل الحضارة الغربية ويبيّن النموذج المعرفي المادي العدمي الكامن في علومها وفي نموذجها المهيمن، ثم يتصدى لها ويقاوم محاولتها إبادة شعبه. ولكنه في ذات الوقت يستفيد من اجتهادات المفكرين الغربيين المدافعين عن الإنسان”[1]. بسبب هذه الأدوار السياسية والفكرة الرائدة، تناول الكثيرون سيرة العالم والمجاهد علي عزت بيجوفيتش من عدة نواحي وزوايا مهمة، مثل كيفية جمعه بين الدعوة والنشاط السياسي ابتداءً من مقاومته للواقع السياسي واعتقاله حتى بلغ فيه أعلى مرتبة يمكن أن ينالها مشتغل بالسياسة حيث أصبح رئيساً لجمهورية البوسنة والهرسك. وتناول البعض نبوغه في الفكر والفلسفة مع نشاطه الدعوي والفكري، وركز البعض على ابداعه وتجديده في الفكر الإسلامي عموماً وفي قضايا الفن والثقافة والحضارة خصوصاً حيث قدم فيها علي عزت رؤية مختلفة عن السائد في كتابات ذلك الجيل من المهتمين بالعمل والفكر الإسلامي.
في هذه الورقة القصيرة سنركز تحليلنا على “المنهجية والأسس” التي اتبعها علي عزت بيجوفيتش في تقديمه للإسلام وللفكر الإسلامي للعالم الإسلامي وغير الإسلامي عبر التركيز على كتاب ” الإسلام بين الشرق والغرب”. ووقع الاختيار على هذا الكتاب تحديداً من بين باقي كتب المفكر علي عزت لأنه الكتاب الرئيسي الذي بث فيه فكره وفلسفته بصورة موسعه وبقالب فكري في الأساس لكنه توسل في توضيح أفكاره بتعابير أدبيه بليغة ولم يلتزم بالصرامة الأكاديمية والنهج الحجاجي في نفس الوقت، وهو ما جعل الكتاب يستحق فعلاً وصف “السهل الممتنع” وجعله أيضاً من أمهات كتب الفكر الإسلامي في أواخر القرن العشرين وحتى اليوم. ولو نظرنا في باقي كتب المفكر علي عزت لوجدناها في الغالب ذات طابع سياسي مع تأسيس فكري مقتضب مثل كتاب ” الإعلان الإسلامي” الذي هو موجه في الأساس لأبناء دينه من المسلمين، أما باقي الكتب المترجمة للمفكر علي عزت فيغلب عليها طابع الخواطر الفكرية مثل كتاب “هروبي إلى الحرية” أو السيرة الذاتية مثل كتاب ” سيرة ذاتية وأسئلة لا مفر منها” وكتاب ” مذكرات علي عزت بيجوفيتش”.
أما سبب تركيزنا على دراسة وتحليل “المنهجية والأسس” التي اتبعها علي عزت في تقديم الإسلام وعرضه للعالم فإنما هو لسببين. أولهما، أن الهدف الذي أراد المفكر علي عزت بيجوفيتش تحقيقه من كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” هو محاولة لتقديم للإسلام بلغة الجيل الجديد. يقول على عزت بيجوفيتش في نهاية التقديم لكتابه: “وأكرر، مرة أخرى، أن هذا الكتاب ليس في اللاهوت ولا مؤلفه من رجال اللاهوت، إنه على الأرجح محاولة ترجمة الإسلام إلى اللغة التي يتحدث بها الجيل الجديد ويفهمها. من هذا المنطلق قد يتطرق القصور أو الخلل، فلا ترجمة كاملة مبرأة من العيوب”[2]. وعاد المؤلف مرة أخرى ليؤكد هذه الفكرة المركزية من كتابته لهذا الكتاب في ملاحظاته حيث قال: “كتاب الإسلام بين الشرق والغرب ليس كتاب لاهوت، وإنما هو كتاب يتناول عقائد الإسلام ومؤسساته وتعاليمه، بقصد اكتشاف موقع الإسلام في إطار الفكر العالمي. إنه ليس نظرة للإسلام من الداخل، وإنما على الأرجح نظرة من الخارج. بهذا المعنى، فإن موضوع الكتاب ليس في أساسه عن الإسلام كمعلّم، بل عن الإسلام كنظرة على العالم”[3]. لذلك ستركز هذه الورقة على الإجابة على سؤال إلى أي مدي نجح علي عزت بيجوفيتش في تقديم نظرة خارجية للإسلام تعرضه كفكر عالمي للجيل الجديد؟ السبب الثاني لهذه المقاربة هو اعتقادي بأن الظروف التي كتب فيها على عزت بيجوفيتش كتابه والتي كان يعيشها قومه في ذلك الوقت من تجريف وتجهيل ثقافي لأبناء المسلمين في قومه وغربة تعاليم الإسلام مع وجود استبداد سياسي وبطش من مؤسسات الدولة، أصبح كثير من المسلمين يعيشون نفس هذه الظروف في هذا القرن الواحد عشرين عبر التجريف الإعلامي للمنصات الحديثة (مثل نتفليكس) مع وجود منصات التواصل الاجتماعي التي فتح كل أبواب الأسئلة والتساؤلات بصورة تساعد على التشكيك والارتياب أكثر من الحوار وتبادل الأفكار، وأخيراً، ضعف مؤسسات التعليم الرسمية أو استعملها من قبل مؤسسات الدولة لتبرير البطش والاستبداد. هذا التشابه الكبير في الظروف يدفعنا للتعلم من تجربة الرجل ومنتوجه الفكري.
وفي محاولة الإجابة على السؤال الكبير المتعلق ب “أسس ومنهجية علي عزت”، تنحو الورقة منحى تحليلي للأفكار والأسلوب والمنهجية العامة التي اتبعها علي عزت في كتابه، وتحاول رصد وتتبع أبرز الصفات المنهجية بصورة أساسية. قد تتطرق الورقة لمناقشة نقدية لهذه الصفات في بعض الأحيان، لكن التركيز الأساسي لهذه الدراسة هو رصد المنهجية وأبرز صفاتها وهو ما أتمنى أن يفتح الباب لمزيد من النقاشات حول جدوى اتباع نفس هذه المنهجية في سياقاتنا المعاصرة.
يرصد الفصل الثاني من هذه الدراسة أهم المميزات المنهجية التي جعلت كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب” إضافة للفكر الإسلامي في القرن العشرين وما بعده. في الفصل الثالث ترصد الدراسة أربع صفات في طريق الاستدلال والحجاج عند علي عزت بيجوفيتش. في الفصل الرابع ترصد الدراسة أبرز الصفات المنهجية في مناقشة بيجوفيتش للجدل العالمي ونقده للمناهج والأيدولوجيات المهيمنة على العالم، أما الفصل الخامس فيقوم بنفس الرصد ولكن لطريق عرض بيجوفيتش للإسلام كمنهج بديل وطريق ثالث لهذه الأيدولوجيات والمناهج المهيمنة. الفصل السادس من الدراسة يناقش بعض الاعتراضات الشائعة على منهجية علي عزت، وبعد معالجتها يذكر هذا الفصل بعض الانتقادات المنهجية التي رصدتها الدراسة في مقاربة بيجوفيتش. أخيراً، تختم الدراسة بحديث عن طريقة “الخطاب” والتفاعل مع القارئ في كتاب الإسلام بين الشرق والغرب ويربطه بالفصل الثاني من الدراسة.
[1] عبد الوهاب المسيري، مقدمة كتاب “الإسلام بين الشرق والغرب”، الطبعة السادسة، دار الشروق، 2015، ص 9.
[2] علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد يوسف عدس، مؤسسة بافاريا للنشر والإعلام والخدمات، ص 37.
[3] المصدر السابق، ص 39.
لتحميل الورقة كاملة