المؤلف: د. فريد الأنصاري.
الناشر : دار السلام
عدد الصفحات: 232 صفحة
سنة النشر : 2009 م
يعد كتاب (البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي) من المراجع المهمة في نقد التأصيل والممارسة السياسية من المنطلق الإسلامي، ويكتسب أهميته من كون مؤلفه أحد الرموز الدعوية والعلمية داخل الحركة الإسلامية التي هي موضع نقاشه، فضلاً عن جدلية المادة التي يتناولها (علاقة السياسي بالديني في الإسلام)، وتأثيراتها المتداخلة على المجالين الدعوي والسياسي.
تضمَّن الكتاب أربعة فصول:
جاء الفصل الأول بعنوان (الحركة الإسلامية والبيان الدعوي)، تناول المؤلف في المبحث الأول منه معنى (الحركة الإسلامية) ومفهومها لدى عدد من الاتجاهات التي تختلف مواقفها من الحركة، مقرراً بطلان زعم امتلاك تعريف جامع لها بكل ما تحمله من تعقيد، ثم أورد عدداً من الآراء المتبانية في رؤيتها لمفهوم الحركة الإسلامية، معلقاً عليها إجمالاً بعدم الوضوح في إيجاد المميز الذي يوضح التعريف ويجليه، بالإضافة إلى إغفال “الدين” من البحث! وهو ما اعتبره رغبةً – ربما – في تجريد الحركة من “الشرعية الدينية”، ليدلف من هذه الإشكال إلى بيان الطبيعة الدعوية للإسلام، وأنه – بهذه الطبيعة – مُنتِج للحركة الإسلامية، وأن كلَّ قضاياه العقدية والتشريعية تُبنى على (الإصلاح) كقضية كلية، واستعرض جملة من الأدلة الموضِّحة لمنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة، والجهاد من جهة أخرى، ليقرِّر بعدها أن الحركات الإسلامية لا زالت تعيش وجدانياًّ على هذه النصوص في حركتها المستمرة لتجديد الدين طوال مسيرة التاريخ الإسلامي منذ الصحابة ومروراً بالتابعين والعلماء، إلى زعماء الحركات المعاصرة، مما يعني الاتصال المعرفي والوجداني للحركة بأصولها الدينية، حتى إن تغيرت البواعث المباشرة أو المظاهر والتجليات. وبالتالي فالصحوة الإسلامية المعاصرة ليست إلا تعبيراً اجتماعيّاً عن مكنون المجتمع الديني ظهرت اضطراريّاً حين غاب من يعبِّر عن الدين وقت الحاجة.
(من أين نبدأ الإصلاح؟) كان مدخل المؤلف للفصل الثاني، والذي حمل عنوان (الأحكام السياسية في مراتب التشريع)، ذكر فيه أن فكرة (الدولة الإسلامية) شكَّلت مفرِق الطرق بين الاتجاهات الإسلامية بين من يجعلها الغاية من تحقيق الدين، ومن يجعلها وسيلةً لتحقيقه، ومَن يعدُّها نتيجةً فقط، وانعكاسات كل تصور على الرؤية الإصلاحية لكلٍّ، مع بيانه لمراتب التشريع في الإسلام عبر أدوات أصول الفقه، مقرِّراً أن ما قُصِد أصالةً في الشريعة فإنه يُنصُّ عليه في القرآن، فيكونُ في المرتبة الأولى من التشريع، يليه ما اقتُصر على ذكر تشريعه في السنة ليكونَ في المرتبة التشريعية الثانية، يليهما ما سُكت عنه في القرآن والسنة وأحيل على الاجتهاد، ليكون في المرتبة التشريعية الثالثة، موضِّحاً أن ذلك لا يعني إنكار السنة بل ترتيب درجات التشريع كما رتَّبها الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -، وألحقهما بقاعدتين هما أن ما كان مقصوداً في الشريعة أصالةً كان تشريعه صراحةً لا تلميحاً، وأنه يفصَّل تفصيلاً، وذلك يعني أن كلَّ ما لم يذكر تشريعه صراحةً فهو غيرُ مقصودٍ أصالةً في الشريعة، وكذلك يكون كل ما لم يُفصَّل تفصيلاً.
وقد دعم ذلك كله بنقولات عن الشافعي والشاطبي رحمهم الله، وختم المبحث بنتيجة المقدمات التأصيلية السابقة ليقول أن الأولى بالتشريع في الشريعة هو الأولى بالتدين والتعبُّد، وهو من أولويات الدين ومقاصده العظمى، والعكس بالعكس.
وبعد التأصيلات السابقة لمراتب التشريعات دلف المؤلف إلى بيان المرتبة التشريعية للأحكام السياسية في الإسلام، موضحاً مقصوده من “الأحكام السياسية” أنها (كل التشريعيات المتعلقة بتدبير الشؤون العامة للدولة على المستوى الدستوري والإداري والتنفيذي)، وقدَّم المؤلف دعواه قبل ذكر أدلتها، والتي فحواها: أن القوانين التشريعية الدستورية والإدارية المنوطة بتنظيم (فن حكم الدولة) = لم تنل من التشريع في الغالب إلا المرتبة الثالثة!، بينما مواد القانون المنظمة للدولة والمجتمع سواء من أقسام القانون العام أو الخاص = موجودة في القرآن والسنة والاجتهاد.
ممثَّلاً لهذه الأخيرة بـ (القانون الجنائي/ القانون المالي/ أحكام الأسرة والزواج والطلاق/المعاملات المعاملات المالية وأحكام البيوع/الصلح/الكفالة/الوكالة..الخ) ، حيث ذكر أن ذلك وغيره وجد حظه في القرآن والسنة والتداول الفقهي خلافاً لباب الإمامة الكبرى الذي لا يكاد يذكر في شيء منها إلا النزر اليسير، مبيِّناً أن التأليف في هذا الباب لم يبدأ إلا في القرن الخامس الهجري، ونقل ملاحظة بعض الباحثين عن قلة المادة المصنفة في الفقه السياسي – الذي هو القانون الدستوري – في مقابل الثراء التصنيفي في أبواب الفقه الأخرى، وأورد بعد ذلك نقولات من القدامى والمعاصرين تؤكد أن هذه المسألة من أكثر ما اختلف فيه أهل الإسلام، مما يدل على تأخر هذه المسألة في سلم درجات التشريع.
ثم انطلق المؤلف في تعضيد هذه الرؤية، ذاكراً أن السابقين واللاحقين أجمعوا على خلو القرآن الكريم من نصوص مخصوصة بالشأن السياسي وفق ما تقدَّم، عدا آيتي الشورى (وشاورهم في الأمر) ، (وأمرهم شورى بينهم)، مبيناً أن الآيتين ليستا نصّاً على الشورى بالمعنى السياسي، فأما الأولى فلا قرينة تصرفها عن أن يكون المراد بها الشورى في غير السياسة، ومثله يقال في الآية الثانية (وأمرهم شورى بينهم) : فهو مدحٌ عام للشورى في أي أمر، ولا يصح قصر معناها في الأمر السياسية، سيما أنها وردت في سياق ذكر أوصاف التديُّن العام، ليعود المؤلف لأصل المسألة ويقرر أن القول بأولوية الأحكام السياسية -كما عرفها هو- في التشريع الإسلامي بناء على هاتين الآيتين = مخالف لمنهج التشريع الإسلامي وقواعده الكلية كما سبق بيانه في الكتاب.
كما نقد المؤلف اتكاء كثير من الإسلاميين في التأصيل للثورة ضد الوضع السياسي على حديث الخلافة المشهور (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون …) ، مبيِّناً أنه بالنظر العلمي الأصولي لا يؤصل لشيء من ذلك!، لأنه لا يعدو أن يكون إخباراً بما سيقع، مع كونه يحتاج اجتهاداً في التنزيل على الأعيان، وذكر أن التعبير بالملك العاض داخل في الخلافة بدلالة لفظ (تكون) العائدة على الخلافة، مستشهداً بقول ابن تيمية (إن شوب الخلافة بالملك جائز في شريعتنا، وأن ذلك لا ينافي العدالة، وإن كانت الخلافة المحضة أفضل)، فضلاً عن أن أكثر النصوص الحديثية في ذلك تجري على غير الهوى الثوري بأوامر في الأمر بالسمع والطاعة ونحو ذلك، واستعرض المؤلف جملةً منها داعياً إلى عدم الانتقائية في اختيار النصوص الموافقة للرأي فقط .
ثم ذكر أن غياب التشريع في سياق بحثنا عن النص الشرعي في المسألة السياسية يعد تشريعاً، لأن وجود الدواعي الكثيرة للتشريع مثل مجيء الإسلام بين إمبراطوريتي فارس والروم، ونشوء الحاضرة العربية على أنقاض ممالك اليمن، والهجرة النبوية إلى المدينة حيث كان الأوس والخرزج على وشك تنصيب عبد الله بن أُبيّ ملكاً عليهم، ثم الخلاف بين الصحابة في المسألة السياسية في حادثة سقيفة بني ساعدة = في كل ذلك لم يتوفر نص قاطع ليحسم الخلاف، مما يعني أن الشريعة قصدت ألا يكون ثمَّ تشريع، حتى يُحال الأمر على الاجتهاد البشري المحض، ومن ثم لا تكون هذه المسألة بالنسبة للدين إلا وسيلة تدخل في باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، على أنه عاد ليؤكد أن قيام الدولة الإسلامية مطلب شرعي ضروري لتحقيق مناطات الأحكام الشرعية، لكن ذلك لا ينبغي أن يقود إلى الغلو بجعل الدولة هي كل الدين.
وختم المؤلف هذا الفصل بذكر أهمية (أصول الفقه السياسي) للعمل الدعوي، والذي عرفه بأنه منهج معرفة سنن التوقعات والمآلات فيما يتعلق بتدبير شؤون المجتمعات، على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي .
في الفصل الثالث أكد المؤلف ما قرره في الفصل السابق من أن المسلمين لم يجمعوا على شيء في الفقه السياسي غير وجوب تنصيب الحاكم، ووجوب الشورى على ما سبق فيها من كلام، متناولاً أبرز القضايا السياسية لدى الفقهاء قديماً وحديثاً، فبدأ بمسألة بيعة الإمام أو الخليفة، وهل تكون بالنص أم بالشورى أم بالعهد من الإمام؟، وقد أرجع حقيقة الخلاف إلى غياب النص الشرعي كحكم واضح، مستعرضاً الاستشكالات على كل قولٍ منها.
وقرر المؤلف أن ولاية العهد تطوَّرت من عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتكون “أسرية” مع بني أمية وبني العباس بلا نكير يُذكر من العلماء الموثوقين ديانةً وإمامةً، ناقلاً مجموعة من أقوال العلماء ليقول بعدها إن الفقه السياسي في الإسلام صار أكثر عُرفيَّة مع تقدم الزمن، حتى مرَّ عليه زمان اقترض فيه من تراث الفرس، وذلك راجعٌ لانعدام النصوص الشرعية الواضحة في هذه المسألة، وهو ما يعني تبعية المسألة السياسية وعدم أصالتها الدينية بالنسبة إلى أصول الإسلام العقدية والتعبدية.
ثم انتقل المؤلف إلى بيان واقع الفقه السياسي المعاصر، حيث أشار إلى تفرق الإسلاميين في الموقف من الديمقراطية، بين من يراها مرادفة للشورى ومن يراها (طاغوتية) لا مجال لقبولها، ومن يقبلها كأداة، وتناول بالنقد تصوُّر “الحاكمية” لدى مدرسة المودودي وسيد قطب، والذي جمعا فيه بين ما هو تشريعي قضائي وبين ماهو سياسي سلطوي، موضِّحاً أن بينهما فرقاً كبيراً، فالإمامة فرع من الفروع، والحكم بما أنزل الله من صميم أصول الدين، والجمع بينهما على وجه المرادفة خلط وغلط، مبيناً أنه لا دلالة في القرآن على المعنى السياسي للفظ (الحكم)، وأنها دلالة دخيلة على الفقه الإسلامي الذي وردت فيه بمعناها القضائي، كما نقد المؤلف مَن أنكر الحاكمية الإلهية بمعناها التشريعي كرد فعل على غلو بعض الإسلاميين، وذكر أن مفكري الجيل الثاني للحركة الإسلامية – كالترابي والغنوشي – تبنى الديموقراطية كمرادف للشورى. مع نقده لتصورات عبد السلام ياسين التي تبنى فيها غائية الوصول إلى الحكم من أجل الإصلاح .. وختم المؤلف هذا المبحث بأن سمة (الاجتهادية) أو (الأرأيتية) هي الغالب على مجال الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، لافتاً إلى أن الله وجَّه التديُّن إلى مجالات أخرى بالأصالة لا تقبل الانقسام، بدءاً من التوحيد فإقام الصلاة إلى سائر أركان الدين، وترك السياسة لتكون من باب الوسيليات الخادمة.
وفي المبحث الثاني من الفصل الثاني عرض أسباب النفسية الصدامية لدى الحركات الإسلامية بعد أن قدَّم الدعوى بأن الصدام السياسي الذي يطبع الحركات الإسلامية ما هو إلا “نفسية” تكوَّنت في ظروف معيَّنة، وصفها المؤلف بالغلو، ثم قرَّر قبل البدء في ذكر أسبابه أن الأرضية الوجدانيَّة للتديُّن كان عاملاً في نشأة الغلو، ثم ذكر ثمانية أسباب كانت سبباً في تشكيل تلك النفسية الصدامية لدى الحركات الإسلامية بناءً على استقرائه الشخصي خلال عشرين سنة قضاها في صفوف الحركة الإسلامية واحتكاكه بالتجارب الإسلامية المختلفة داخل المغرب وخارجه، بالإضافة إلى إفادات وكتابات رواد الدعوة الإسلامية، و كانت أسباب الغلو كما يراها د.فريد كما يلي:
– نفسية رد الفعل على قيام (إسرائيل) وما تلاها من الهزائم للدول العربية في مواجهتها كهزيمة 1967، وإحراق المسجد الأقصى سنة 1969 .
– الظلم الدموي الذي مارسته الأنظمية القمعية المستبدة على الدعاة واشتباكها مع الحركات الإسلامية، كاغتيال حسن البنا ثم إعدام عبد القادر عودة وسيد قطب، وكذلك أحداث سوريا سنة 1982، ونبَّه المؤلف على أن تلك القضايا كانت متصلة الأثر بين بلدان العالم الإسلامي.
– ظلم النظام العالمي الأمريكي وانتقاله من حروب الوكالة إلى الغزو والتدمير، مما شكل أرضية خصبة لنشوء الاتجاهات الغالية.
– رد الفعل المنافس للمد الماركسي الذي كان فجّاً في استثارة حفيظة الإسلاميين، وكان لرد الفعل أثر في نشوء النفسية التكفيرية ضد الأنظمة، تحقيقاً لسبق إسلامي لا يملك الماركسي الرد عليه.
– التأثر بنموذج الثورة الإيرانية التي أطاحت بنظام الشاه، وكذلك نموذج حزب الله اللبناني -وقتها- كأيقونة نضالية ضد اليهود في الجنوب اللبناني.
– التأثر بالجهاد الأفغاني، وما تبعه من بروز الاتجاه المنادي بالحل العسكري، مما أدى لمآلات خطيرة من الغلو في الفكر والممارسة
– تدهور الوضعية لاجتماعية، حيث ذكر أن الغلو ينشأ – غالبا – في المجتمعات الفقيرة والمهمشة اقتصاديا وسياسيا.
– غياب التوجيه الفقهي للحركات الإسلامية والذي كان من أسبابه محاربة شباب الصحوة بإيعاز من الأنظمة شكل قطيعة بينهما، وترك للشباب فراغاً سدوه بلا زاد علمي فكانت النتيجة المرة.
وقدَّم المؤلف رحمه الله في الفصل الأخير من الكتاب رؤيته للمشروع الدعوي الإسلامي، بدأه بمقدمة عن رسالة القرآن العظيم كمضمون للدعوة، مع التدبر والتفكر والإيمان والعمل، ونقد الممارسة الدعوية التي تعرض التدين على أنه جماعة معينة، ثم عرض ملامح ذلك المشروع التجديدي الذي يراه عبر عدة عناصر؛ أولها تجديد المضمون الوجودي للدين القيام بالتجديد المفهومي لمعاني الدين وتجديد الإحساس بالتدين على مستوى الوجدان والقلب مما يرسخ الشعور بالانتماء إلى الإسلام أداءً لحق الخالقية بالتعبُّد، مشيراً إلى إحياء معنى (الخلق) هو أساس معنى تجديد الدين، وصولاً إلى الإحساس بالربوبية وإشعار العباد بمخلوقيتهم، واشترط لتحقق ذلك أن تكون الدعوة إلى الله لا إلى الأحزاب، فيكون التنظيم في خدمة الدعوة لا العكس، لافتاً أن التدين العام هو الفضاء الأوسع الذي يحتضن العمل الإسلامي بصورة تلقائية ويدعمه ويسنده ويمده بأسباب القوة .
وتحدث المؤلف عن بعث الرسالة القرآنية، حيث وضح فيه أن الطبيعة الأصلية للقرآن الكريم: الرسالية، وأن حقيقة الدعوة الإسلامية تبليغ القرآن للناس، وقبل تبليغه لا بد أن ينفعل به المبلِّغون وجدانيّاً.
وختم المؤلف فصول كتابه بالحديث عن الأولويات الدعوية منطلقاً من أن العمل الإسلامي التجديدي هو عمل للدين قبل الدولة، وطلب للقرآن قبل السلطان، مذكراً بما قرره سابقاً من تأخر المسألة السياسية في درجة التشريع، ونبه إلى أن ضرب البنية الخلقية التحتية الذي ينتزع العاطفة الدينية من الناس = هي الحصار الحقيقي للعمل الإسلامي، وأن الخطاب ينبغي أن يكون ذا بعد اجتماعي شامل، يحمل رسالة التدين ببساطة لعموم الناس، وعليه يرى المؤلف أن أولى الأولويات الدعوية للمشروع الإسلامي المعاصر هي الدعوة الخُلُقية بمعناها التعبدي الكبير. كما نوه المؤلف عبر جملة من المعاني الإيمانية على مركزية الصلاة تحديداً في صناعة بيئة المجتمع المتديِّن.