المؤلف: محمد علي فرح
الناشر : مركز نماء للبحوث والدراسات
عدد الصفحات: 352 صفحة
سنة النشر : 2014 م
الكتاب الذي نود عرضه في هذا المقال هو من الكتب النوعية وذات الأهمية الشديدة، وتتوزع مواضيعه على مناطق اشتغال متعددة يجمع بينها كونها ليست مقروءة جيداً في السياق العربي، هو كتاب “صناعة الواقع” لمؤلفه محمد علي فرح ،والذي يحمل عنواناً فرعي ” أفكار حول السلطة والجمهور والوعي والواقع”، هذا الكتاب يعتبر قطعه شديدة الاهمية ومن المهم قراءته في واقعنا المعاش. يتوسل الكاتب مشارب عدة من الادب والفلسفة والمفاهيم المبثوثة في علم الاجتماع والسياسية عن الجماهير والواقع والوعي ويقدمها في إطار تشغيلي سلس يوضح كيف تعمل المجتمعات وكيف تتحرك غرائز الجماهير.
يستهل الكاتب محمد علي فرح كتابة بأمثولة “الكهف” لأفلاطون والتي كانت مميزة كمدخل مشهدي للفكرة الأصلية الناظمة لكل أفكار الكتاب، فهناك ادعاء رئيسي خفي يحرك قلم الكاتب وهو أن واقعنا المعيش ليس هو الواقع الذي نتصوره في الاذهان. يتجلى هذ الامر بوضوح لدى افلاطون في حكاية الكهف والظلال الشهيرة التي تحكي باختصار عن مجموعة مساجين في كهف مقيدي الأيدي وموجهين نحو جدار تنعكس عليه ظلال الحراس، لا يملكون أي نصيب بصري في هذا الوجود سوى هذه الظلال التي امامهم، هولاء المساجين يعتقدو اعتقاداً جازماً ان هذا الوجود مختزل في حائط الظلال هذا الذي امامهم فقط، يقول افلاطون لو أن أحدهم تخلص من القيد وخرج الى العالم والواقع المعيش سيذهل وعندما يعود ليحكي لهم سوف لن يصدقوه أبداً.
يتكون الكتاب من بابين رئيسيين في الباب الاول يناقش الكاتب الأفكار المتعلقة بنظريات خصائص الجماهير، ويتناول التنظيرات حول طرائق السيطرة على الواقع والتطبيقات على ذلك، يطرح هذه الفكرة من خلال اربعة فصول رئيسية في الفصل الاول يناقش نظرية غوستاف لوبون عن سيكولوجيا الجماهير متطرقاً الى شكل الجمهور ومن ثم خصائصه من سرعة الانفعال الى سرعة التأثر الى التعصب، ومن ثم ينطلق الى محركي الجماهير ووسائل الاقناع. اما الفصل الثاني فيتناول تطبيقات نظرية لوبون عند النازية، فنجده يستدعي كلاً من هتلر وغوبلز وبيرنز وليبمان حتى يصل الى فرويد، اما الفصل الثالث والرابع فقد خصصهما لمناقشة المدرسة الفرانكفورتية والقيم التي تأسست عليها اهم أطارحيها من الاستهلاك الى التشيؤ الى الاغتراب ويتنقل بين هذه الادوات الماركسية ببراعة شديدة ويربط بينها وتجلياتها في المجتمع المشهدي في الفصل الرابع من الباب.
أما في الباب الثاني فينطلق السرد الى وسائل الاتصال وشكل المجتمع المعاصر، حيث يتناول وسائل الاتصال ونظريات تطور وسائل الاتصال على حسب “ماكلوهان” وعلاقتها ببناء المجتمع وشكل التفاعل فيه حيث يقسم ماكلوهان المراحل الرئيسية لتطور وسائل الاتصال الى مرحلة شفهية ومرحلة كتابية وأخيراً مرحلة الالكترونية، ويحلل كيفية تغير المجتمع وتأثره في كل مرحلة بوسيلة الاتصال ، ويطرق في بحثه فكرة المجتمع الافتراضي او مايرمز اليه بانهيارالواقع محاولاً تفكيك بنية السوشال ميديا. الى أن يصل في الفصل الثاني من الباب لأدوات السيطرة ووسائل ضبط المجتمع من التلفاز الى الاعلانات الى الرسائل اللاواعية التي يبثها الاعلام.
في هذه المساحة نحاول التعريج على أهم المواضيع التي تجعل من كتاب “صناعة الواقع” كتاباً ذا قيمة عالية ويستحق القراءة:
– توظيف نظريات غوستاف لوبون مؤسس علم نفس الجماهير لفهم الظواهرالاعلامية التي تجلت في الحقبة النازية عند بيرنيز وغوبلز، حيث جعل من نظريات لوبون تطبيقات عملية لفهم بنية ادوات ووسائل السلطة في السيطرة على الجموع.
– الحفر النقدي في منتوج المدرسة الفرنكفورتية وتوظيف أدواتها مثل( الاستهلاك والتشيؤ والاغتراب) في تفكيك الواقع الرأسمالي والمجتمعات الصناعية المعاصرة.
– المتتالية المنطقية التي خلص اليها الكاتب في مايتعلق ببنية المجتمعات وعلاقتها بوسائل التواصل فيها.
– الطرق المعرفي في مفهوم الواقع الافتراضي لمحاولة فهم طبيعة عمل الاتصالات الشبكية وعلاقتها بالواقع الحقيقي.
ينهي الكاتب طرحه بعرض تصور عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل فوكو عن المجتمع والذي يجسده فكرة سجن “البانوبتيكون” السجن الذي يتكون من زنازين ذات شبابيك واسعه على شكل حلقة دائرية، يتوسطها برج مراقبة، تكون هذه الزنازين متاحة لمراقبة الحارس القابع في البرج، ولكن لايمكن للسجين معرفة اذا ماكان هناك حارس يراقبه ام لا. وهكذا حتى لو نزل الحارس عن البرج، وزالت العين المحدقة الخارجية فان العين المحدقة الداخلية (شعورهم بانهم مراقبين) ستظل تراقبهم. يسحب فوكو هذا الشكل من الرقابة على كل المؤسسات في الدولة من مدارس ومستشفيات ومصانع وغيرها تلك المؤسسات التي تم ضبطها لتشبه السجون (زي موحد مواعيد محدده اوامر وطاعه) ولايقصره على المؤسسات البوليسية فقط.
وكما أستهل الكاتب طرحة بكهف أفلاطون نجده ببراعة يختتم كتابه بالنموذج الذي ناقشه عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل فوكو لشكل المجتمع، وهو سجن البانوبتيكون وكانه يقول ان وعي الانسان محاصر بين الظلال التي تمثل الاعلام وبين السجن= بنية المجتمع الصناعي الحديث الذي يشيئه وينظر اليه كقطعة استهلاكية ليس الا.