دور الفقه:
عندما يكون الحديث عن دور الفقه لابد أن نصحح حالة القصور المصاحبة لتصورنا عنه، تصورنا أن الفقه هو تلك الأحكام المختزنة في عبارات الفقهاء التي تتقلب بين الإباحة أو الاستحباب أو الوجوب، تلك العبارات المستغلقة والمستعصية على الأفهام أحيانا.
وللخروج من ذلك التصور القاصر لابد من الرجوع إلى مراحل الفقه الأولى وتحولاته عبر التاريخ، لتكوين صورة أوضح وأشمل ، وعندئذٍ سنرى الفقه وهو يتكون بين تفاعلات النصوص الشرعية مع الفعل الإنساني المتعدد والمتنوع، يسير مع أفعال المكلفين ليحكم عليها ويكيفها ويؤثر فيها و يتأثر بها، ستجد ذلك الفقه الذي يساير حركات العابدين في تعبداتهم خطوة بخطوة، ويماشي عقود المتعاقدين في عقدهم ونقضهم، ستجد الفقه يساير المكلف في صحته ومرضه وفي رضاه وفي غضبه، وفي سلمه وحربه، ستجده يلازم المكلف وهو يقاضي ويسامح، وهو يقتص ويخاصم.
بل لا يقف عند ذلك ستجده يراعي فيه _أي المكلف- حال الصحة والمرض، والحل والترحال، بل سيرسم له كيف يضع بنيان بيته متكيفة مع بعض الأحكام في ذلك ، وكيف يخط مسيره وهو يضرب في أرض لها، يبتغي من فضل الله.
هذا التصور الشامل العام لاحظه من كتب عن الفقه وتاريخ نشأته وتطوره، وكيف تفاعلت أحكامه مع الإنسان، ولم تقتصر على جانب التعبد بل امتدت إلى جوانبه الحضارية الأخرى، ولذلك لا عجب أن يتربط الفقه ذلك الارتباط الوثيق بالحضارة الإسلامية، لتجعلها حضارة فقهية بامتياز تجلت آثاره في جوانبها السياسية والاجتماعية والعلمية، فما نشأت علوم الحساب والجبر والفلك والتداوي إلا تزامنا مع أحكام الفقه وتماشيا معها، وتطورت نظم القضاء ودساتير الحكم وأحكام الولايات بتطور الفقه وتفاعله من حركة الإنسان، وجهد الفقيه المصلح.
فكل ما ذكر كان منتجا حضاريا وأثرا من أثار الفقه، الفقه بصورته العقلية المتفاعلة والمختلطة بالواقع اختلاطا لا ينفك عنه، وليس ذلك الفقه التجريدي المتعالي على الواقع، بل التطبيقي منه، يؤكد ذلك الجابري فيقول :
(إذا جاز لنا أن نسمي الحضارة بإحدى منُتِجاتها فإنه سيكون علينا أن نقول عنها إنها (حضارة فقه) وذلك بنفس المعنى الذي ينطبق على الحضارة اليونانية حينما نقول عنها إنها (حضارة فلسفة) وعلى الحضارة الأوربية حينما نصفها بأنها حضارة (علم وتقنية) والواقع أنه سواء نظرنا إلى المنتجات الفكرية للحضارة الإسلامية من ناحية الكم أو نظرنا إليها من ناحية الكيف فإننا سنجد الفقه يحتل الدرجة الأولى بدون منازع.
إن ما كتب في الفقه من مطولات ومختصرات وشروح، وشروح الشروح، لا يكاد يحصى، وما استنسخ من هذه الكتب بمختلف أنواعها يستحيل استقصاؤه. بل إننا نكاد نجزم أنه إلى عهد قريب لم يكن يخلو بيت من البيوت المسلمة، من الخليج إلى المحيط، بل وفي أعماق كل من آسيا وأفريقيا، من كتب في الفقه. وبعبارة أخرى إنه ما من مسلم كان يحسن القراءة بالعربية إلا وكان على اتصال مباشر بكتب الفقه. وإذن فالفقه من هذه الناحية كان أعدل الأشياء قسمة بين الناس في المجتمع العربي والإسلامي، ولذلك كان لابد أن يترك أثره قويا فيه، ليس فقط في السلوك العملي للفرد والجماعة –الشيء الذي يستهدفه أساسا- بل في السلوك العقلي أيضا، أي في طريقة التفكير والإنتاج الفكري) ¹ .
بل إن الجابري يلفت الانتباه إلى قضية مهمة، وهي قضية الافتراض الفقهي وهي تصور مسائل لم تكن واقعه زمن تناول الفقيه لها وقد تجد البعض يعتبر ذلك من أسباب جمود الفقه وتأخره ولكن رؤية الجابري كانت على عكس ذلك، مؤكدا أن تلك المخيلة الفقهية التي تجاوزت الممكنات آنذاك أدت إلى تطور العقل الإسلامي يقول:
(وفي عملية الافتراض تلك لم يكن الفقهاء يتقيدون بـــ (الممكن الواقعي) بل لقد ذهبوا مع (الممكنات الذهنية) إلى أبعد مدى ، مما جعل الفقه في الثقافة الإسلامية يقوم بذات الدور تقريبا الذي قامت به الرياضيات في الثقافة اليونانية والثقافة الأوربية الحديثة. ومن هنا أهميته بالنسبة للبحث الايبيستيمولوجي في الثقافة العربية الإسلامية..
والواقع إنه إذا كان الفقه قد وظف جميع العلوم العربية الإسلامية من علوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم اللغة والنحو والكلام، فإنه قد وظف أيضا وعلى نطاق واسع علم الحساب وبكيفية خاصة في المواريث…. بل يمكن الذهاب بالعلاقة بين الرياضيات والفقه الإسلامي إلى أبعد من هذا إذا نحن نظرنا إلى تقدم الرياضيات من زاوية الحاجة العملية إليها،… فإن حاجة الفقه وبكيفية خاصة علم الفرائض قد دفعت بالرياضيات إلى التطور والتجدد بل لربما إلى اختراع علم الجبر والمقابلة، إننا نكاد نجزم بأنه يدين في وجوده للفقه والفقهاء… ) ².
إذا رجعنا إلى موضوعنا في الأصالة وهو الفقه وما يقدمه في زمن الوباء، فلا بد من بيان وجوه الترابط بين الفقه والطب، وقبل ذلك من أين جاء ذلك الارتباط والتكامل بالنسبة للمسلم.
إن التشريع الاسلامي تدور مقاصده كما قرر العلماء حول تحقيق وتحصيل المنفعة بالنسبة للإنسان، غير أن هذه المنفعة لا تكتفي بالوقوف عند تحققها للإنسان فقط، بل تتعدى ذلك لربطها بمراد الله تعالى وتحقيق مقصوده.
ومن جملة المنافع التي راعتها الشريعة وجاءت أحكامها المتجلية في الفقه, رعاية الإنسان وحفظ نفسه ودفع الضرر عنها، ذلك المقصد الذي تنطلق فيه الشريعة من تقريرها لجمالية الإنسان وكمال خلقته كما في قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) سورة التين (4) وقوله تعالى: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) غافر (64) ، فجاءت الأحكام متماشية مع ذلك للمحافظة على الإنسان في أحسن صورة، وأرضاها فطرة.
ولذلك كل ما يضر بصحة الإنسان منعته وحرمته، وكل ما يؤدي إلى كمال الصحة و وفورها فهو يتردد بين الإباحة والوجوب.
قد تجد في ذلك المقصد تحريم الشريعة لتناول المستقذرات من الأشياء، والسباع والجوارح من الطير كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ)
كما جاءت الشريعة بدفع المشقة المهلكة أو المضرة بالبدن المانعة له من أداء وظائفه، وهو أمر ملاحظ في تشريعاتها.
ومن وجوه الترابط المعلومة أن بعض الأحكام الشرعية لا يمكن الوصول إلى القطع فيها إلا بمشورة الطبيب العارف كجواز الفطر في نهار رمضان، والتمييز بين دم الفساد ودم الحيض بالنسبة للمرأة الحامل، وأحكام الإجهاض ، والتأكد من الحمل المتوقف عليه أحكام العدة، ومقادير الضرر الواقع على النفس المانع لبعض التكاليف، وتحديد العلل النفسية والعقلية الرافعة للتكليف المانعة للأهلية، بل بعض أحكام الفقه متعلقة في العلاقة بين المريض والطبيب وما يحصل فيه الضمان من الضرر وما لا يحصل.
بل عندما استشعر بعض علماء الشريعة تلك الحاجة إلى المعرفة والإلمام بالطب وبغيره من العلوم بالنسبة للفقيه استحسنوا إلمامه بذلك يقول الإمام القرافي : (وكم يخفى على الفقيه والحاكم الحق من المسائل الكثيرة بسبب الجهل بالحساب والطب والهندسة ، فينبغي لذوي الهمم العالية أن لا يتركوا الاطلاع على العلوم ما أمكنهم ) ³.
قد كان العقل الفقهي ملما بجملة من العلوم لا يرى أي ضرورة للفصل بينها، او حالة من التضاد والفصام، وقد جمع جملة لا حصر لها من الفقهاء علوما أخرى كثيرة منها الطب، ويمكن أن نذكر بعضا منهم :
المازري محمد بن علي إمام المالكية في عصره، قال عنه القاضي عياض في ترجمته: (وإليه كان يفزع في الفتوى في الطبّ في بلده كما يفزع إليه في الفتوى في الفقه)
والشقاق الفقيه الفَرَضي (ت511ه) قيل فيه: كان آية من آيات الله في الفرائض والحساب .
وابن الزبير الأسواني الفقيه (ت563ه) كان أوحد عصره في الهندسة والرياضيات وغيرهما من العلوم.
وابن المجدي الفقيه المحدث (ت850ه) قال فيه السخاوي: (وصار رأس الناس في أنواع الحساب والهندسة والهيئة وإحكام الآلات الفلكية)
وعبد الله بن عمر بن مخرمة (ت962ه) قال فيه محي الدين العيدروس (وكان آية في العلم خصوصا الفقه والفلك)
وظهوري الرومي (1083ه) الفقيه القاضي كان من حذاق الكيميائيين
وعبد القادر الخلاصي الفقيه المحدث (1284ه) قال عبد الرزاق البيطار: (انتهت إليه رئاسة معرفة الأمراض وتشخيصها، وكانت له في رؤية المرض أمور خارقة للعادة، تدل على كمال علمه ومعرفته)⁴.
وقد قام الباحثان عواد الخلف وقاسم سعد بجمع (1066) عالما شرعيا في الفقه والحديث والتفسير قد برعوا في علوم تجريدية وتجريبية أخرى في كتابهما الموسوم (الجامعون بين العلوم الشرعية والتجريبية) من كافة العصور التاريخية.
فكل ما تقدم يقودنا إلى نتيجة معضدة بأدلتها أن الفقه ليس بالعلم الغريب عن واقع الإنسان، ولا يفتات على غيره من العلوم في وضع رؤيته في التعامل مع الوباء.
وأن الفقه في حالته التطبيقية، وهو يتفاعل مع الواقع ويطور آليات التنزيل للنصوص على الوقائع المختلفة كانت حاضرة من النشأة الأولى، ولا أدل على ذلك من مجلس الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بشأن طاعون عمواس، ذلك المجلس الذي يجسد حالة التثاقف والتفقه.
إن عمر بن الخطاب قدم الشام، فلما كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد فيهم أبو عبيدة ابن الجراح، فأخبروه بالوباء وشدته، وكان معه المهاجرون والأنصار، خرج غازياً، فجمع المهاجرين الأولين والأنصار فاستشارهم، فاختلفوا عليه، فمنهم القائل: خرجت لوجه الله فلا يصدك عنه هذا، ومنهم القائل: إنه بلاء وفناء فلا نرى أن تقدم عليه. فقال لهم: قوموا، ثم أحضر مهاجرة الفتح من قريش فاستشارهم فلم يختلفوا عليه وأشاروا بالعود، فنادى عمر في الناس: (إني مصبح على ظهر). فقال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال: (نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان إحداهما مخصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟) فسمع بهم عبد الرحمن بن عوف فقال: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع ببلد وأنتم به فلا تخرجوا فراراً منه). فانصرف عمر بالناس إلى المدينة.
ولكن لا بد من التنبيه على أمر لا يعني مما تقدم أن يصادر الفقه دور الطب أو العلوم الأخرى وينوب عنها، بل إن مجال الفقه معلوم وهو مسايرة أفعال المكلفين وإعطائها الأحكام التكليفية المعلومة (الإباحة- الندب- الوجوب-الكراهة- التحريم)، كما أنه يضع لهذه الأفعال المقاصد الحسنة، والغايات المحمودة، وتحقيق المصلحة ودفع الضرر عن المكلف، وهذا-الأخير- ما تشاركه فيه بقية العلوم وفي مقدمتها الطب. وتظل هذه العلوم كاشفة لحال الإنسان وواقعه تعطي الفقيه المعاني التي يقوم عليها الحكم الفقهي.
المراجع:
1- تكوين العقل العربي/ د. محمد عابد الجابري (ص96)
2- تكوين العقل العربي للجابري- بتصرف يسير (ص99)
3- الفروق الفقهية للقرافي (4/11)
4- الجامعون بين العلوم الشرعية والتجريبية/ أ.د. عواد الخلف_ د.قاسم علي سعد (ص7-8)