بعد عامين من الإطاحة بالبشير من السلطة، تمر الثورة السودانية بمرحلة انتقالية صعبة. ويعد الاقتصاد والسلام والسياسة الخارجية من بين التحديات الرئيسية للحكومة الانتقالية. وخطورة هذه الملفات وضرورة خلق اتفاق ووفاق سياسي حولها، إلا أن هذه الملفات الثلاثة كانت موضوعًا رئيسيًا للتنازع بين المكونين المدني والعسكري للحكومة الانتقالية في السودان. أنشأ الميثاق الدستوري لعام 2019 نظامًا لتقاسم السلطة بين الجيش وقوى الحرية والتغيير؛ وهو التحالف المعارضة الذي قاد الانتفاضة ضد البشير ونظامه. هذه هي المرة الأولى في تاريخ التحولات الديمقراطية السودان التي يتم فيها تضمين الجيش في المؤسسات الانتقالية، حيث كانت مهمة إدارة الفترات الانتقالية شأنًا مدنيًا بالكامل في السابق. كان الأساس المنطقي لاتفاق تقاسم السلطة هو الحفاظ على مؤسسة الأمن القومي السودانية بقيادة الجيش. ومع ذلك، تواجه الحكومة تهديدات خطيرة للأمن القومي بسبب العلاقات المدنية العسكرية الصعبة، وغياب عملية مؤسسة لصياغة سياسات الأمن القومي الشاملة.
من الصعب التغاضي عن العلاقة المتوترة بين الحكومة المدنية والجيش السوداني. غالبًا ما ينتقد الجنرالات العسكريون في مجلس السيادة الانتقالي، وهو أعلى مؤسسة ذات سيادة، السياسات الاقتصادية والخارجية للحكومة. على سبيل المثال، ففي خطاب متلفز ألقاه مؤخراً في حفل تدريب للجيش، انتقد الفريق الركن عبد الفتاح البرهان، رئيس الجيش ورئيس مجلس السيادة الانتقالي، المؤسسة الانتقالية لفشلها في تحقيق التطلعات الثورية للشعب. ردت الحكومة المدنية بوصف التدخل العسكري في القطاع الخاص بأنه “غير مقبول”. بينما من المتوقع والطبيعي وجود اختلافات في السياسات بين المؤسسات الحكومية، إلا أن التوترات المدنية – العسكرية الحالية في السودان تتطور لتصبح وجهات نظر مختلفة للأمن القومي، وهنا تكمن الخطورة.
الشؤون الإقليمية
من قضايا الأمن القومي المتنازع عليها قضية التحالفات الإقليمية والدولية. حافظت المؤسسة العسكرية على العلاقات الحميمة للنظام السابق مع مصر وروسيا ودول الخليج. في الوقت نفسه، يميل مجلس الوزراء المدني أكثر نحو إثيوبيا والدول الغربية بسبب علاقاتهما التاريخية مع المعارضة. ومن أمثلة ذلك الصراع، وفي خطوة دبرتها الإمارات، التقى اللواء البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في 3 شباط / فبراير 2020. ويتعارض هذا الاجتماع مع الميثاق الدستوري الذي خصص الشؤون الخارجية للمدنيين. علاوة على ذلك، نفت أسماء محمد، وزيرة الخارجية السابقة، أي علم بمثل هذا الاجتماع. لكن الجيش تحدى رواية الحكومة بإعلانه معرفة مسبقة لرئيس الوزراء السوداني الدكتور عبد الله حمدوك بالاجتماع واستشهد باختصاص القوات المسلحة في شؤون الأمن القومي.
بالإضافة الى ذلك، طلب حمدوك عملية دعم سلام تابعة للأمم المتحدة لتنفيذ الإعلان الدستوري وحشد الدعم لمفاوضات السلام والمساعدة الاقتصادية. هذه الخطوة استفزت القيادة العسكرية لأن الدكتور حمدوك لم يتشاور معهم قبل إرسال الطلب. فقام العسكريون بالضغط عليه لإرسال رسالة جديدة إلى الأمم المتحدة تلغي طلب دعم تنفيذ الميثاق الدستوري وإصلاح أجهزة الأمن.
تذبذب العلاقات السودانية الإثيوبية دليل على عدم وجود تنسيق بين الجيش والحكومة المدنية. من ناحية، تدير الحكومة المدنية مفاوضات سد النهضة التي لم تحقق أي تقدم بعد. و من ناحية أخرى، يدير الجيش الصراع الحدودي مع إثيوبيا، والذي أدى إلى استعادة الفشقة السودانية على الحدود الشرقية مع إثيوبيا بعد هجوم شنته الميليشيات الأمهرية على المزارعين السودانيين.
المؤسسات الانتقالية
القضية الثانية للأمن القومي المتنازع عليها بين العسكريين والمدنيين هي قضية المؤسسات الانتقالية حيث لم يتم بعد إنشاء مؤسستين من المؤسسات الانتقالية المركزية. نص الإعلان الدستوري على ضرورة تشكيل مجلس تشريعي انتقالي خلال ثلاثة أشهر من التوقيع الذي انتهى وقته قبل عام. وبالمثل، فإن المؤسسة القضائية السودانية ليست كاملة، ولا تزال البلاد بدون محكمة دستورية منذ أبريل 2019.
كلا المؤسستين مهمتان لترسيخ المعايير الديمقراطية والمشاركة العامة وسيادة القانون. ومع ذلك، فإن المكونين الانتقاليين ليسا على نفس الصفحة عند المضي قدمًا في بناء هذه المؤسسات. في الشهر الماضي، انتقد القادة المدنيون مبادرة البرهان لإنشاء مجلس شركاء الانتقال (CTP) “المسؤول عن قيادة الفترة الانتقالية وحل الخلافات [بين من هم في السلطة] وامتلاك جميع الصلاحيات اللازمة لممارسة سلطته. ” رأت الحكومة المدنية وجود تناقض بين المرسوم والإعلان الدستوري، محذرة من استبدال CTP للبرلمان الانتقالي الذي لم يتم تشكيله بعد. ومع ذلك، فإن رفض الحكومة المدنية لـ CTP لم يعالج الفشل في تشكيل هيئة تشريعية لأكثر من عام، مما يشير إلى أن الترويكا الحاكمة الحالية مستفيدة من حالة قصر السلطات التشريعية على مجلس الوزراء وأعضاء مجلس السيادة.
يعد افتقار السودان للمؤسسات القضائية وسيادة القانون مجالًا آخر من مجالات الهشاشة في الفترة الانتقالية. يُحتجز نشطاء المعارضة دون محاكمة منذ أكثر من ستة أشهر، وتسبب القتال بين الطوائف في مقتل أكثر من 80 شخصًا في دارفور الأسبوع الماضي.
مستقبل الامن القومي السوداني
إن عدم التنسيق وتضارب الأجندات بين المدنيين والجنرالات يعرض الأمن القومي السوداني للخطر. من الناحية المثالية، يجب أن يخدم الأمن القومي السوداني مصالحه الوطنية، لكن العلاقات المدنية-العسكرية الانتقالية الحالية المضطربة ستوجه سياسة الأمن القومي السوداني نحو التنافس على السلطة الانتقالية بين الشركاء. علاوة على ذلك، فإن تحديد المصالح الوطنية للسودان في فترة انتقالية سيتطلب توسيع أصحاب المصلحة وتأسيس عملية صنع قرار شاملة. بالإضافة إلى ذلك، جلبت عملية الديمقراطية في السودان مجموعات اجتماعية جديدة ذات مصالح متباينة على نطاق واسع في العملية السياسية في وقت كان هناك نقص في القدرة المؤسسية لاستيعاب المصالح المتضاربة. هناك حاجة ماسة لهيئة تشريعية للإشراف على السياسة الخارجية والاستراتيجية الأمنية للحكومة. كما ينبغي للأمن القومي الانتقالي في السودان معالجة المخاوف الأمنية خارج العاصمة الخرطوم. يجب أيضا تعزيز القانون والنظام في المناطق الشرقية والغربية في السودان لتجنب الحروب الأهلية في المستقبل.
حتى الديمقراطيات القديمة والراسخة تكون أكثر عرضة للخطر في المراحل الانتقالية. إن الديمقراطية الهشة والوليدة في السودان أكثر عرضة للخطر بسبب الديناميكيات الإقليمية في الشرق الأوسط والقرن
الأفريقي. يحظى الانتقال في السودان باهتمام متزايد من دول الخليج في البحر الأحمر، الأمر الذي يستلزم وجوة جبهة داخلية قوية وموحدة لمواجهة الاضطرابات الإقليمية. أن وجود أي انقسامات بين الشركاء الانتقاليين والسلطة السياسية في المستقبل لن تؤدي إلا إلى تعقيد عملية الانتقال، المعقدة أصلاً، في السودان وستكون لها عواقب وخيمة على مستقبل الانتقال الديمقراطي.