الأُسرة من أهم المؤسسات التي يحتمي بها الإنسان ويحقق من
خلالها جوهره الإنساني ويكتسب داخلها هُوِّيَته الحضارية والأخلاقية، كما أن لها
أبعاداً ومضاميناً إحتماعية تتجاوز المحيط الخاص للوجود الإنساني بأكمله، فهي
ركيزة أساسية للحفاظ على النوع الإنساني وتنميته، لكن العالم المادي المهيمن غيرمن
توجهاتها وبنيتها في محاولة لإعادة صياغة الإنسان
في ضوء المعايير المادية بلا ذاكرة تاريخية، من خلال التفكيك وإفراغ مفهوم
الأُسرة من أُسسه وتشريعاته وإقصاء له عن دوره في صناعة الأجيال. تأتي هنا الدكتور
خديجة كرار الشيخ الطيب بدراسة نقدية
تحليلية شمولية تقدم رؤية متكاملة بعنوان: الأسرة في الغرب أسباب تغيير مفاهيمها
ووظيفتها، من إصدار معهد دراسات الأسرة بجامعة أمدرمان الإسلامية للعام 2009م، تناولت فيها المتغيرات التى طرأت
على الغرب وطالت العقيدة والقيم والأخلاق ونمط الحياة، وما نتج عنها من تيارات
فكرية وأنظمة سياسية وإقتصادية أثرت على مفهوم الأسرة، وكيفية تسلل هذه المتغيرات
إلى المجتمعات الإسلامية عبر استراتيجيات تجمع بين وسائل الغزو الثقافي والفكري
وبين استخدام آليات المنظمات والمواثيق الدولية التي تسعى لتنزيل تشريعاتها الخاصة بالمرأة والطفل
والشباب لبسط هيمنة مفاهيم الثقافة الغربية .
مما يكسب هذه الدراسة مزيداً من الأهمية أن مُؤلِفتها قد شاركت
في لجنة وضع المرأة بالأمم المتحدة ممثلة للسودان لدورتين بنيويورك، وشاركت ايضاً
في لجنة البرلمانيات بالإتحاد البرلماني الدولي لست دورات على مدى ثلاث سنوات، مما
أتاح لها الفرصة للإطلاع على كثير من خطط العمل التي تشكل برامج لعولمة مفاهيم
الثقافة الغربية في مجال المرأة والأسرة خاصة.
ومما يميزهذه الدراسة أنها حللت دعاوى تغيير مفهوم الأسرة من
حيث أصلها ومضامينها وأهدافها وواجهاتها، مُدعمة لانتقاداتها بالحقائق العلمية
والتاريخية التي تؤكدها، كما أنها لم تركزعلى المرأة فقط بوصفها مدخلاً للتغيير في مفهوم الأسرة كعادة الكثير من
الكتابات.
سلكت المُؤلِفة في تناولها
للأُطروحة مسلك التأصيل والتحريف، فابتدأت
بتقديم المفهوم الإسلامي للأسرة بوصفه إطاراً تأصيلياً يتم من خلاله تناول
موضوع الكتاب الأساسي. ومن جهة التحريف تناولت تغيير مفهوم الأسرة في صورته
المعاصرة ببيان مضامينه الفكرية، بعد أن استعرضت مراحل نشوء الحضارة الغربية،
وأوضحت ظهور إلانحراف بمفهوم الأسرة المسيحي بشقيه الكاثوليكي التقليدي
والبروتستانتي التأصيلي.
تقع اللأطروحة في 352
صفحة مقسمة على أربعة فصول :
الفصل الأول تناولت فيه
مفهوم الأسرة في الإسلام، حيث تحدثت عن مكانة الأسرة في الإسلام، ودعائم بنائها
على قواعد الوحي وكيفية المحافظة عليها. في المبحث الأول من هذا الفصل وبعد أن
عرّفت مصطلح الأسرة وأشارت لمعاصرته وضّحت أن السياق الإسلامي قد عنِي بالأسرة من
حيث هي وحدة اجتماعية تظهر فيها رابطة
التلاحم التي تنطوي على الحماية والنصرة و ترتكز في وجدان وضمير الفرد، غاضاً
الطرف عن أشكالها التنظيمية، منافياً لمنظورعلم الإجتماع الغربي الذي انشغل
بالتعريف البنيوي الوظيفي للأسرة. ثم أثارت تساؤلاً عن المقصد الإلهي من ضبط
وترتيب جزئيات النظام الأسري عبر تشريعات هي غاية في الشمول والقوة والمرونة، هل
هو مجرد عملية بنائية ميكانيكية؟.
أجابت عن هذا التساؤل في المبحث الثاني حيث أبانت أن وراء هذه
التشريعات مفهوما كلياً للأسرة يمثل روح هذه التشريعات، يقوم على خمسة أصول تتداخل
فيما بينها، بلورتها على النحو التالي: أصلها الأول هو أن الوجود الإنساني إرادة
إلهية لغاية، فذكرت أن الله قد اختص الإنسان دون سائر المخلوقات بمزايا ليحقق
مكونات المهمة الأساسية التي من أجلها
خُلِق من العبادة والخلافة واستعمار الأرض، مؤكدة على أن هذه المهمة أمانة
وليست هبة ولا حقاً للإنسان يفعل بها مايشاء، كما أنها مرتبطة بأجل ويوم يحاسب فيه
الإنسان عليها. أما الأصل الثاني والثالت والرابع ثلاثتها تتمحور حول الزوجية كخلق
إلهي تجسدت فيها غاية الوجود الإنساني، وهي النموذج الذي قدره الله تعالى للنسل
على الأرض حتى تستمر عبوديته سبحانه، كما أنها أمانة لها حدودها وأوامرها ونواهيها
التي ترمي لإنشاء مجتمع إنساني مستقر وفق مضامين ومعاني الرسالة الربانية، وعليه
كان من تدبير الخالق أن تتسم زوجية الإنسان بوحدة وديمومة الإرتباط، لذا أمدها
الله بعوامل تعمل على تمتين هذه العلاقة
وتحقق الاستقرار، كالسكن والمودة والرحمة. ثم تحدثت عن أصل الزواج بوصفه
عهد وميثاق غليظ تجب رعايته والوفاء به، وكيف أن الإسلام فصل التشريعات التي بينت
الحقوق والواجبات التي تخص الطرفين تجاه بعضهما وتجاه الأبناء، كما تحدثت عن فضل
المرأة على الرجل بالخصائص التي اقتضتها مهام الأمومة، ووجه تفضيل الرجل على
المرأة بالقِوامة التي وصفتها المؤلفة بأنها تكامل وعدل في أصعب مهام الزوجية تسعى
لحماية الأسرة وصيانتها، وليست تكريساً للأبوية كما يدعي بعض علماء الإجتماع. ومن
ثم في الأصل الخامس أبانت أن حال الأمة –باعتبارها
كياناً يمثل الوحدة الإسلامية يحمل أمانة الإستخلاف – منوط بحال الأسرة، إذ أن بث
الإنسانية وانتشارها محكوم بذات القيم التي تحكم الزوجية، فصلاح هذه من تللك.
بعد ذلك عمدت إلى ذكر مظاهر الإنحراف عن المفهوم الإسلامي
للأسرة، وتحريم الشريعة لكل ما يخرج عن الإطار القيمي الأخلاقي الناظم للأسرة من:
أنواع الزواج التي لا تستوفي شروط العهد والعقد، والزنا والتبني والفحش الذي يخرج على الفطرة والتدبير الرباني
الذي جعل طرفي الزوجية الذكر والأنثى.
في الفصل الثاني اتخذت
من المبحث الأول الذي حمل عنوان سنن النهوض والاستبدال الحضاري مدخلاً للحديث عن
مراحل نشوء الحضارة الغربية، حيث نوهت إلى أن العبرة في الحضارة ليست بمكوناتها
المادية ومبتكراتها الإعجازية، وإنما العبرة بإنسانها ومسيرة القيم الحاكمة لعطائه
وما تقدمه من خير وصلاح للبشرية جمعاء. ومن ثم دلفت إليها في المبحث الثاني-لتنفذ
من خلال هذا السرد التاريخي للأثر الذي خلفته الحضارات بأبعادها السياسية والدينية
والاقتصادية على مفهوم الأسرة-وقسمتها لمرحلتين: الأولى من الحضارة الإغريقية إلى
عصور الظلام، المرحلة الثانية منذ بدايات النهوض إلى الحضارة المعاصرة.
في المرحلة الأولى تحدثت عن الحضارتين الإغريقية والرومانية وما
تميزتا به من فكر وثقافة وإدارة، والتغيير الذي طرأ بعد دخول المسيحية
للأمبراطورية الرومانية في القرن الأول
الميلادي ورفض الرومان لها بسبب نبذ المسيحيين لعقيدة الرومان ومهاجمتهم لاستخدام
المنطق وإعمال الفكر، مما تسبب في عزل المسيحين واضطهادهم إلى أن دُمج المسيحيين
في المجتمع، ومع مرور الوقت اصبحت للكنيسة سلطة عليا سياسية ودينية كما أنها مثلت
صمام الأمان لتماسك المجتمع، إلا أنها حرَّمت استخدام العقل والإجتهاد في أمور
الدين واتسع الأمر ليشمل كل ضروب العلم، لذا اتسمت الفترة من القرن الخامس إلى
القرن الحادي عشر بالركود الفكري والعلمي وسُميت بعصور الظلام.
أما المرحلة الثانية ابتدأتها بالوقوف على الأثر الإسلامي على
الحضارة الغربية بعد الثورة الثقافية العلمية التي عقبت حركة الفتوحات والتي شهدها
العصر العباسي حيث أُنشئ بيت الحكمة، وتُرجم فية الإرث المعرفي الإغريقي وأنتُقد
وطُوِروأُضيف إليه، وبذلك أعطت التجربة الإسلامية الفلسفة والعلوم مشروعيتها
وأثبتت أن العقل والإستنتاجات العلمية الصحيحة لا تتناقض مع الدين، وبمرور الزمن
تسرب هذا الإرث مرة أخرى إلى اوربا وبلغ ذروة تسربه بعد الحروب الصليبية.
ومن ثم تحدثت عن الحركة المدرسية حين بدأ علماء اللاهوت وتحت تاثير عطاء المسلمين الفكري يدركون أن
استخدام العقل والمنطق في معرفة الكون لا تمس قداسة الرب بصلة، وأُنشئت على إثر
ذلك في أورباعدة جامعات.
وفي هذا السياق تعرضت لحركة الإصلاح الديني أو المعارضين التي
ظهرت بعد أن قامت مجموعة بحملة لجمع التبرعات لصالح الكنيسة مقابل منح المساهمين
صكوكاً للغفران، وفي زمان انتشر فيه استخدام العقل في امور الدين، استفز هذا
المسلك عالم اللاهوت الألماني مارتن لوثر فثار ضد الكنيسة وخرج عليها وكتب ما يعرف
برسائل الإصلاح وعدّ المخلص الحقيقي للمسيحي هو إيمانه وليس وساطة كهنة الكنيسة، ووجدت أفكاره قبولاً
لدى الكثير من رجال الدين، وبعض الأباطرة والملوك، وشهدت أوربا حروباً طاحنة بين
البروتستانت والكاثوليك.
انتقلت بعد ذلك لمرحلة عقبت ظهور البروتستانت أحدثت تغييراً
جذرياً في أوربا في شتى المجالات، هي مرحلة النهضة الصناعية والفكرية. وبينت أن
التغيير اتخذ مساريين: أحدهما اقتصادي والآخر فكري فلسفي. وقد كان للمسار
الاقتصادي أثره الفاعل في بلورة المسار الفكري موضع الأهمية في دراسة اتجاهات
تغيير مفهوم الاسرة، لذا تطرقت للمسار الاقتصادي وتناولت الثورة الصناعية والعوامل
التي أحدثتها: من الرحلات الاستكشافية التي قامت بها الدول الأوربية و نهبها
الممنهج للموارد الطبيعية والبشرية من القارات، بالأضافة إلى مبادئ البروتستانتية
التي كان لها دوراً كبير في دفع النهضة العلمية والصناعية، و ظهور الرأسمالية التي
كان لها أثراً في توجية الحياة السياسية وأُقيمت في ظلها المعامل والمصانع والسكك
الحديدية وبنيت السفن الكبيرة.
أما بالنسبة للمسار الفكري فقد ذكرت أن الثورة الصناعية أحدثت
انقلاباً شاملا في مراكز القوى، إذ استُبدلت سلطة الإقطاع والكنيسة بسلطة الحكومات
المستحدثة وملوك الصناعات أو الإقطاعين الجدد كما سمتهم المؤلِفة، وخرج الإنسان
الأوربي من حياة الفلاحة في الإقطاعية إلى المصنع والمعامل وأصبح العمل بالأجر
بعيداً عن الأسرة بديلاً للعمل في الإقطاعية مقابل السكن والإعاشة. وبالإضافة إلى
صدمة التحول المعيشي تعرض الإنسان الأوربي لصدمة الصراع الديني بعد ظهور
البروتستانت ومبادئهم الداعية لحرية التدين واستخدام العقل والمنطق واكتساب العلم،
وفي ظل الإنقلابين الصناعي والديني حدثت تجاوزات وردود فعل عنيفة طالت بدورها مجال
الفكر والفلسفة، فشهدت أوربا حركة فكرية فلسفية قلقة تمخضت عنها فلسفات تعتبر
الأساس الذي قامت عليه الأيدولوجيات المعاصرة، حيث ظهرت الفلسفة المثالية والمادية
الجدلية والواقعية والتجريبية وغيرها، كل منها تقدم نظرية للمعرفة وللكون وللأخلاق
وللطبيعة الإنسانية ونظرية للتربية الخلقية. اتخذت هذه الحركة الفكرية مسارين:
الأول ابقى على الدين مع الفصل التام بينه وبين الدولة على أن يكون التدين امراً
شخصياً، وتم استحداث نظام سياسي لحفظ الحقوق وتحرير الإنسان وسمي هذا المسار
بالعلماني وهنا أشارت المؤلفة لأن موقف هذا المسار ارتبط تاريخياً بشكل الكنيسة
وسلطتها، أما علمانية اليوم ترفض الدين نفسه كمُوجِه للحياة ومصدراً للقيم. أم
المسار الثاني سُميَ المسار الدنيوي والذي يعد نموذجاً للغلو في تجاوز حدود حرية
الفكر البروتستانتي فقد اتسم بالجنوح التام عن الدين، فهو لا يؤمن بإله ومن ثم لا
يعترف بالمؤسسات التي تقوم على الدين كالأسرة.
وخلصت المؤَلِفة إلى أن الحضارة الغربية المعاصرة قد استمدت
مبادئها من المراحل التي سبق استعراضها والتي تقوم على إقصاء الدين ورفض مرجعيته
والمؤسسات التي تقوم عليه، والتزام العقلانية المطلقة والعلمانية أو الدنيوية
منهجاً للحياة، والفردانية ومبدأ القوة، واعتماد الديقراطية نظاماً سياسياً.
تناولت في الفصل الثالث مصادر اتجاهات تغيير مفهوم الأسرة في
مبحثين الأول بعنوان البروتستانت وتأصيل مفهوم الأسرة قارنت في مطلعه بين وضع
الأسرة تحت ظل الكنيسة والنظام الإقطاعي وما آلت إليه بعد الثورة الصناعية، فذكرت
أن الأسرة في أوربا وتحت مظلة تعاليم الدين ورعاية الكنيسة كانت مستقرة ومحافظة
على وظيفتها في تربية النشء، وبالرغم من مظاهر الظلم في ظل النظام الإقطاعي إلا أن
الحياة الأسرية داخل الإقطاعية كانت مستقرة و تقوم على قيم التعاون والتكافل كما تميزت شبكة العلاقات
الأسرية بالإتساع لتمتد وتشمل الزوجين وأقاربهما. إلا أن الثورة الصناعية حورت
المجتمع الأوربي ونتج عنها تفكيك الروابط بين مكونات الأسرة بسبب الهجرة إلى مدن
الصناعات طلباً للعمل، كما أن الأسرة تحولت من أسرة منتجة تأكل مما تزرع وتلبس مما
تصنع، إلى أسر مستهلكة، وانقسم المجتمع إلى طبقات.
أما البروتستانت فقد ذكرت أنهم سعوا لتأصيل دور الأسرة عن طريق
المحافظة على مؤسسة الزواج نظاماً دينياً له قداسته، والإهتمام بتربية الاطفال
وتعليمهم في المنازل، كما أن الموسرين كانوا يدعمون أسر الطبقات العاملة، وبذلك
استطاعوا أن يمتصوا آثار التغيرات الإقتصادية. استمر هذا التكامل بين التقدم
الصناعي والقيم الدينية إلى أن جاءت خواتيم القرن الثامن عشر وبدأ المسار اللايني
يستأسد وكان له دوره الفاعل في اختراق المجتمعات وتفكيك نسيجها الروحي والاجتماعي
والثقافي.
لماذا نجح التوجه اللاديني في فرض الأسس التي قامت عليها
الحضارة الغربية المعاصرة في المجالات كافة بما في ذلك مفاهيمها الخاصة بالفرد
والأسرة والأخلاق والمجتمع؟
تأتي في المبحث الثاني لتجيب عن هذا التساؤل بزعمها أن الماسونية
التي تعتبر أقوى الكيانات صاحبة التوجه المادي اللاديني كانت تسعى لإنشاء نظام
عالمي جديد لذا استهدفت كافة أشكال تماسك المجتمعات، كما تعدّ الماسونية هي المؤسس
الفعلي للشيوعية.
ثم عرّجت على الشيوعية ونظريتها لإلغاء الأسرة وبينت أنها تستمد
أسسها من مصدرين هما المانفستو الشيوعي ومؤلفات الفلاسفة الشيوعيين. أما المانفستو
فقد ذهبت لأنه لم يقدم اساساً للمفهوم الشيوعي للأسرة بل دعا مباشرة لإلغاء الأسرة
عبر نقد الأسرة البرجوازية البروتستانتية.
أما فلاسفة الشيوعية ذكرت منهم: مورقان الذي شكلت آراؤه أساسا
لبلورة مفهوم الأسرة واستناداً لآراء دارون يقول أن أصل الإنسان حيوان، وأنه في
طور إنتقاله للإنسان لم تكن له أسرة ولو يعرف الزواج بل عاش فيما سماه الإباحية.
وبالإضافة لآراء مورقان، جاء ماركس ليقول بأن النسل كان امومياً، فهوية الأب ونسبة الأبناء إليه لم
تكن معرفة، كما يصف الأسرة بأنها نظام ابتدعه الإنسان بعد اتساع موارده وهي أول
مظاهر الاحتكار الذي يمثل الخروج من الشيوعية والإشتراكية والبدائية، كما وصفها
بأنها نظام يحمل في طياته يذرة الإسترقاق كما دعى لإشاعة النساء، أما انجلز فقد
استند لذات أفكار السابِقَين إلا أنه استحدث مبدأ الصراع بين الرجل والمرأة واتخذه
مدخلاً لإلغاء الأسرة، ومن ثم تحدثت عن إيميل دوركهايم الذي ارتبط مفهوم الأسرة
عنده بمفهوم الفرد الذي ينبغي أن يكون عنده علمانياً عقلانياً حراً ملتزماً
بالأنظمة الإنسانوية، لذا نادى باستبدال دور الأسرة في صياغة الفرد بالنظام
التعليمي العلماني، كما سعى لتغيير مفهوم العمل من وسيلة كسب من أجل الأسرة إلى
الكسب من أجل الفرد لذاته كما اختزل دور الأسرة في الدعم النفسي والروحي لأفرادها
لتفادي ظواهر التحلل الاجتماعي كالإنتحار وما شابهها.
الفصل الرابع: تغيير مفهوم الأسرة اتجاهات معاصرة تناولت في
مبحثه الأول الحركة الأنثوية بوصفها تحدياً خطيراً للأسرة والمجتمع تسعى لتحرير المرأة ومساواتها المطلقة مع الرجل
لدرجة تتلاشى فيها مقاصد التدبير والحكمة الإلهية من وجود الزوجين الذكر والأنثى،
وتسعى لأنثنة كافة مجالات الفكر والدين والحياة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن المؤلفة
قد اعتمدت الترجمة الحرفية في اصطلاح الأنثوية فهي تقابل النسوية من حيث دلالتها
على هذا التوجه.
وبعد أن أوردت تعريفاتها انطلقت للحديث عن جذورها وتناولت
الموجة الأنثوية الأولى مبينة أن وضع المرأة لم ينل حيزاً في الفكر التحريري الذي
شهده عصر التنوير، فلم تزل سيطرة الرجل على المرأة ووصايته المطلقة عليها وعلى
ممتلكاتها وأموالها وأطفالها، لذا لم يكن غريباً أن تظهر بعض النساء اللاتي تصدين
لهذا الوضع، فسادت الحركات النسوية الحقوقية التي طالبت بتعليم المرأة وتغيير
قانون حضانة الأطفال ومناهضة الرق وإصلاح قوانين الطلاق وحق الإمتلاك والتصرف في
الموارد وحق التصويت، بعيداً عن روح العداء والانتقام من الرجل.
أما اتجاه النزعة الأنثوية حينذاك فقد ظهر في شكل نزعات متفرقة
ضعيفة ارتبط نشاط رائداته بالشيوعية، التي شكلت مفاهيمها( الأبوية، الاستغلال
الطبقي، الاحتكار) مداخلاً لقضايا الاسرة والمرأة، فما الأنثوية في نظر المؤلفة
إلا ذراعاً من أذرع التوجه المادي اللاديني.
أما المبحث الثاني فقد جاء بعنوان الحركة الأنثوية وتغيير مفهوم
الأسرة تحدثت فيه عن أنثوية القرن العشرين أو الموجة الثانية التي ظهرت كرد فعل
لمطالبة المجتمع المرأة بالعودة إلى مهمتها الأساسية في الأسرة، بعد أن تفشت كثير
من الظواهر السالبة التي نتجت عن عملها في المصانع بسبب ذهاب الرجال إلى الحرب
العالمية، فظهرت مجموعات نسائية تطالب بحق المرأة في العمل، وبرزت أول منظمة
أنثوية في عام 1966م، وبمرور الوقت ازدادت عضويتها وكثُرت مطالبها.
وفي إطار سعي الأنثويات لإستعادة أنثوية الأطر والمفاهيم
القمعية التي غطت بها الأبوية على هوية المرأة حسب زعمهن، قامت مُنظِرات الحركة
بما اسمينه بالتفكيك الذي استهدف الابوية ،الدين ،اللغة ،الزّي ،الفن والأنوثة، أما
الزواج والأسرة ففي رأي الأنثوية هما التجسيد العملي لتصورات الرجل والميدان الذي
يمارس فيه نزعته الاستعبادية لذا اتجهن إلى نقض نظام الأسرة وقلب قيمها ومقاصدها
باعتماد الشذوذ بديلاً لها، كما تقلل الأنثويات من شأن مفهوم الأمومة الذي يتشكل
في إطار مفهوم الوظيفة الطبيعية والبيولوجبة. وبرنامج الجندر الذي عملن فيه على تفكيك الأسرة فيقوم على:
الدعوة للمساواة التامة وإلغاء الفوارق الجنسية بين الرجل والمرأة وأن تستبدل
بالجندر وهو المصطلح الذي يشير إلى رفض حصر الجنس في الذكر والأنثى وإلغاء مفهوم
الأسرة القائم على نظام الزوجية، وتمكين المرأة عبر إلغاء تبعيتها الاقتصادية
للرجل، ورفع شعارات المساواة والحرية وإزالة التمييز والعنف ضد المرأة، والمطالبة
بتوفير موانع الحمل وإباحة الإجهاض، بالإضافة إلى السعي لعولمة مفاهيم وأطروحات
الحركة الأنثوية برعاية المنظمات الدولية.
ذكرت المؤلفة أن الأنثوية استطاعت أن تحقق الكثير من أهدافها في
الغرب فقد تمكنت من فرض وتقنين الشذوذ ليكون أسرة بديلة بقرار صدر عن مؤتمر شهده
البيت الأبيض، كما استطاعت استصدار قانون تنظيم الأسرة وأصبح لزاماً على الدولة
توفير موانع الحمل، كما قننت الإجهاض، واستطاعت ايضاً استقطاب الكثير من العلماء
لدعم مشروع القضاء على الأسرة، وتمكنت من استصدار قرارات من الدولة بمنع الأطفال
من الصلاة في المدارس وغيرها مما رمت إليه، ويعود سبب تحقيقها لمكاسبها إلى تضامن
التيارات الشيوعية معها وتجاوب مؤسسات الحكم العلماني الإنسانوي مع مطالبها.
ثم استطردت إلى ذكر
التيارات المناهضة للأنثوية التي ظهرت في
عام 1976 والحركات التي تخصص كل منها في مناهضة جانب من جوانب مشروع الحركة،
بالإضافة إلى منظمات اليمين المسيحي الداعم للأسرة، والمفكرين الذين تصدوا بالنقد للنظريات الأنثوية،
والكاتبات من داخل الحركة نفسها اللاتي طالبن بتصحيح مسارها بالتخلي عن ايديولوجيا
الصراع مع الرجل والمجتمع. وبالرغم من هذا الرفض إلا أن مخطط التفكيك هذا ظل
مستمراً وينعكس هذا الاستمرار على حال المجتمع فارتفعت معدلات الطلاق وازدادت نسبة
الأطفال غير الشرعيين وارتفع عدد الأمهات العاملات وانقطعت الصلات بين الآباء والأبناء.
ومن ثم أشارت إلى أن الأنثوية قد استطاعت أن تنفذ نحو العالمية
عن طريق تأسيس جمعيات تنظيم الأسرة واختراق المنظمات الدولية والإقليمية وبرامج
الأمم المتحدة، بالإضافة إلى تبني اتفاقية إلغاء اشكال التمييز ضد المرأة المعروفة
بسيداو وغيرها من البرامج التي تستخدم الضغوط على الدول للتوقيع والالتزام
ببنودها. وبذلك تجلّي المؤلفة آثار الفكر الأنثوي الذي اتخذ المرأة مدخلاً لتدمير
الأسرة.
وبذا تكون المؤلفة قد حفزت الوعي بما قدمه الإسلام للإنسانية المستخلفة فيما يخص
مفهوم الأسرة ونظامها، كما بينت اساليب وآليات عولمة الأفكار اللادينية والأنثوية
وخطورتها على الإنسانية، وخلصت إلى أهمية التصدي لها برعاية الأسرة ووضع استراتيجيات تعليمية
وثقافية وإعلامية تحمل روح وقيم الإسلام لصيانة المجتمعات ودحر مظاهر تدنيس
المقدسات، كل ذلك للقيام بمسئولية الشهود الحضاري على البشرية كلها.
وفي الختام أوردت قول الإمام الغزّالي عن الأسرة: “إن
تكوينها دين والحفاظ عليها إيمان، ومكافحة الأوبئة التي تهددها جهاد، ورعاية
ثمرتها من بنين وبنات جزء من شعائر الله”.