خبرت القارة الإفريقية أزمنة متطاولة من الأنظمة السلطوية
بمختلف أشكالها وأفرزت سياسات تلك الأنظمة في إدارة الدولة والمجتمع جملة من
الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم السياسية والاقتصادية والصراعات
الأيدولوجية بين مكونات المجتمع، غيرأن كثير من الدول حدثت بها تغييرات نحو الحكم
الديموقراطي تستلزم استصحاب العدالة الانتقالية وآلياتها في معالجة مظالم الماضي
وآثاره الوخيمة
وللدول الإفريقية التي عرفت انتقالا سياسيا من الحكم السلطوي
نحو الديموقراطية تجارب تتمثل في ما يطلق عليه (لجان الحقيقة والمصالحة ) وغيرها
من الأجسام المشابهة غير أن تلك اللجان والأجسام واجهت مشاكل هددت وقد تهدد )
الانتقال نحو الديموقراطية .
والسودان منذ استقلاله كدولة عانى من حرب أهلية شرسة وعدم
استقرار سياسي وظلم اجتماعي وتهميش لكثير من مكونات المجتمع على مر الحكومات
المتعاقبة، غير أن كل ذلك تبدل بثورة 19 ديسمبر المجيدة التي وضعت حدا لنظام
ديكتاتوري امتد لأكثر من 30 عاما . واستكمالا للفعل الثوري وتوابعه بعد نجاح
الثورة بالإطاحة بالبشير يأتي عرض هذا الكتاب لمجموعة من الأكاديميين ليستكمل
الإنجاز الثوري بعمل بنائي حتى نتجنب العودة مرة أخرى إلى الحكم الأوتوقراطي
المتسلط ولنجنب البلاد مخاطر الانزلاق إلى الحرب الأهلية الناتجة من المرارات
المتراكمة والظلم الاجتماعي .
يتكون الكتاب من ستة محاور هي كالتالي :
المحور الأول : الإطار العام للعدالة الانتقالية ( المفاهيم
والأسس المرجعية
تناول المفهوم التاريخي للعدالة الانتقالية وتطوره عبر الأزمنة
وعرف العدالة الانتقالية بأنها : مجموعة الآليات التي يستخدمها مجتمع ما لتحقيق
العدالة في الفترة الانتقالية نحو حكم ديموقراطي .
برزت فكرة “العدالة الانتقالية” بعد الحرب العالمية
الثانية، عندما تأسست محاكم نورمبرغ وطوكيو لمحاكمة المسؤولين عن الفظائع التي
ارتكبت خلال الحرب . أصبحت أكثر انتشارا مع اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
ثم اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية، تليها منظمات حقوق الإنسان، مثل
العفو الدولية. عمل الأمم المتحدة في مجال العدالة يستند إلى القانون الدولي لحقوق
الإنسان, حقوق الإنسان، القانون الإنساني الدولي، القانون الجنائي, القانون الدولي
وقانون اللاجئين إلا أنها لم تصبح مجالا للدراسة والبحث إلا بعد الحرب الباردة .
ثم تطرق إلى أهداف العدالة الانتقالية الرئيسية وهي التوفيق بين
مجتمعات ما بعد الصراع بما يشمل الاعتراف رسمياً بانتهاك حقوق الضحايا والبحث عن
الحقيقة والحفاظ على الذاكرة الجماعية مع توفير العدالة للضحايا وإصلاح الأخطاء،
قمع الجرائم المرتكبة ومعاقبة مرتكبيها ومنع ارتكاب جرائم جديدة .
ثم تناول آليات العدالة الانتقالية وهي معايير متفق عليها دوليا
تشمل :
أولا : الرد، وذلك بإرجاع الضحية إلى الوضع الذي سبق الانتهاك
وفي الحالة السودانية يكون الرد بإرجاع المفصولين للصالح العام وإرجاع الممتلكات
والعقارات المنهوبة لأصحابها وإرجاع النازحين لقراهم وأماكن إقامتهم .
ثانيا : التعويض عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ويشمل
ضحايا التعذيب بما يتناسب مع كل حالة وضحايا مصادرة الحريات كما يمكن أن يشمل
ضحايا السدود ممن لم ينالوا تعويضات مجزية
ثالثا : إعادة الـتأهيل ويشمل الخدمات الطبية للضحايا وتكاليف
العلاج والتأهيل النفسي
رابعا : الرضى “satisfaction” ويشمل
الوقف الفوري لجميع الانتهاكات وجلسات الاستماع للمظالم والبحث عن المفقودين
وإعادة دفن الرفات والعقاب للمسؤولين عن الانتهاكات .
خامسا : ضمانات عدم التكرار وتشمل تشريعات قانونية تهدف إلى
ضمان السيطرة على قوات الأمن وتفعيل الدور الرقابي وتوسيع سلطة منظمات حقوق
الإنسان وتعزيز الممارسات الديموقراطية وحماية حرية التعبير .
ثم تحدث عن لجان الحقيقة وهي إحدى آليات العدالة الانتقالية وهي
جهاز رسمي ومؤقت وغير قضائي يضع الضحية في قلب أولوياته لإثبات حقيقة الجرائم التي
ارتكبت والتقصي حول الأحداث ثم تقديم نتائج وتوصيات في شكل تقرير نهائي .
تناول المحور أيضا عملية الإصلاح المؤسسي كأحد آليات العدالة
الانتقالية واستقلال السلطة القضائية المدنية والعسكرية كشرط مهم للعبور نحو
الديموقراطية .
ثم تناول المحور معوقات العدالة الانتقالية وهي ملخصة في :
1. صعوبة
تطبيق العدالة الانتقالية في مجتمع تم تهميش مؤسساته أو إضعافها خلال سنوات من
الاضطهاد السياسي والفساد وعدم الثقة وعدم احترام حقوق الإنسان والقانون.
2. نقص
الخبرة في مجال العدالة الانتقالية هي أيضا عقبة أمام التغلب على المشاكل المعقدة
الناجمة عن الأزمات السياسية. وفي الحالة السودانية لو تم وضع العدالة الانتقالية
كأولوية في الفترة الانتقالية ذات الثلاث سنوات فإنها ستكون علامة مميزة ومما
تميزت به ثورة ديسمبر عن ثورة أبريل 1985 وسيجنب بصورة كبيرة عودة الحلقة
الشيطانية ديموقراطية -عسكر .
3. وجود
النظام القديم في مؤسسات العهد الجديد مما يؤدي لعدم تعاون كثير من الجهات في
إثبات الجرائم .
4. صعوبة
التفريق بين الدعوى والإنتقام بالنسبة لشكاوي المتضررين .
5. سماع
شكاوي فئة معينة من المتضررين.
6. ضعف
الميزانية في بلد منهك الاقتصاد وخارج لتوه من فترة طويلة من الفساد المالي وتبديد
الموارد .فالعدالة تحتاج لأموال ضخمة قد لا تتوفر في فترة الانتقال .
7. عقبات
قانونية تشمل : تدمير الوثائق والأدلة
خاصة مع تأخير إجراءات البدء في المحاسبة نتيجة للصراع السياسي ؛ وجود قوانين قد
تعيق سير العدالة الانتقالية وإحجام الضحايا والشهود عن الكلام والشهادة خاصة ذا
كانت الانتهاكات فظيعة أو مما يخجل منه على حسب عادة المجتمع .وفاة بعض الضحايا
والشهود. وعدم وجود محاضر أو وثائق تثبت الحقائق وتقدم إحصائيات دقيقة لجميع
الانتهاكات التي ارتكبت.
تناول
المحور أيضا دور منظمات المجتمع المدني في التوعية القانونية وتوثيق الانتهاكات
وتقديمها للجان الحقيقة ثم مراقبة تنفيذ عمليات المقاضاة .وبتناول تجربة (هيئة
التحكيم المستقلة المغربية) التي تم إنشائها في التسعينات واعتمدت آليات العدالة
الانتقالية .ثانيا التجربة التونسية خاصة بعد إنشاء (هيئة الحقيقة والكرامة) بعد
الإطالحة ب (بن علي) وحددت مدتها بأربع سنوات للتحقيق في الانتهاكات لحقوق الإنسان
في الفترة من 1955-2013 .وذكر المحور دور
(لجنة الحقيقة والمصالحة) في جنوب إفريقيافي كتابة التاريخ على حسب إفادات الضحايا
وفي حث المنتهكين على الاعتراف بجرائمهم واعتمدت اللجنة على عملية المصالحة
الوطنية كأحد آليات ) الانتقال السياسي .
ومما ساهم في نجاح لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا هو
تضمينها إبتداءا في مؤسسات الفترة الانتقالية التي سبقت الإنتخابات العامة والملاحظ
أن الخطاب السائد في السودان ما بعد ثورة ديسمبروالمتعلق بمعالجة آثار النظام
السابق يتركز فقط في المحاسبة دون التركيز على بقية آليات العدالة الانتقالية
المهمة .
المحور
الثاني : عنف الدولة بين السلطوية وحماية
المصلحة العليا للدولة في ضوء تجارب العدالة الانتقالية الإفريقية
تحدث المحور عن سياقات الانتهاكات لحقوق الإنسان والدوافع التي
تؤدي لها من وجود الدولة المستبدة إلى غملية الصراع عن السلطة بالإضافة إلى وجود ا
السياسية لإستعمارية التي مارس وبذرت بذور كثير من الانتهاكات .
تناول المحور تجارب دول كالمغرب الذي بدأ الصراع الداخلي فيه
مبكرا بعدالاستقلال خاصة بعد الخلاف بين فصائل جيش التحرير وبداية سلسلة من
الاغتيالات والانتهاكات مرورا بحراك الريف 1957وحملة الحسن الثاني علية وأحداث
الدار البيضاء 1965 التي خلفت ألف قتيل وآلاف المعتقلين .مما يوضح المشكلة الرئيسة
وهي عدم وجود برنامج وطني جامع تسير عليه البلاد بعد الاستقلال وهذا يقنن الصراع
حول السلطة وممارسة الانتهاكات .أعقبتها سلسلة من الإنقلابات الدموية والأحداث
العنيفة .
تناول المحور نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا الذي مارس
أقسى حالات الانتهاكات لحقوق الإنسان بدوافع عنصرية بحتة من خلال سلسلة من
القوانين التعسفية تتمثل في حظر الزواج المختلط 1949 والفصل بين السكان وغيرها من
القوانين .
يعرض المحور بالتفصيل تجربة جنوب إفريقيا في التوافق السياسي مع
تجربة المغرب في الإصلاح النابع من داخل السلطة الحاكمة .كما يعرض تقييما لتجارب
العدالة الانتقالية في البلدين.
تطرق المحور إلى نقطة مهمة جدا وهي إدارة التنوع في الدول التي
تعيش حالة انتقالية .حيث تغيرت وظائف مفهوم التنوع كثيرا من الحقوق المدنية إلى
العنصرية إلى الجندرية إلى التمييز الإيجابي .كما أن بروز ظاهرة العنف بين المكونات
المجتمعية طرح مفهوم الأمن المجتمعي عوضا عن الأمن القومي .ويخلص إلى أن هنالك
كثير من المقاربات لإدارة ملفات الفترة الانتقالية أنجحها آليات العدالة
الانتقالية .
ثم عرج مرة أخرى إلى تجربة جنوب إفريقيا في العدالة الانتقالية
حيث تم تقسيم لجان الحقيقة والمصالحة إلى ثلاث لجان هي : لجنة انتهاكات حقوق
الإنسان ولجنة جبر الضرر وإعادة التأهيل ولجنة العفو وتم تكليف اللجنة بدراسة
الحالات التي وقعت خلال 34 عاما بين عامي 1960-1994ووجدت اللجنة أمامها 50000 حالة
انتهاك جسيمة لحقوق الإنسان .
وفي تونس تم إسناد ملف حقوق الإنسان إلى وزارة حقوق الإنسان
والعدالة الانتقالية للتحقيق في الجرائم منذ 1955-2013 .جدير بالذكر هنالك عقبات
كثيرة واجهت آليات العدالة الانتقالية منها الخلافات السياسية ولغة الإقصاء
والإنتقام وسياسة الحد الأدنى من العدالة .
تناول المحور أيضا مفاهيم العنف والسلطة ومفهوم الدولة ومبدأ
إحتكارها للعنف .وناقش تعريف عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر لعنف الدولة
ومفاهيم الشرعية والدورالأساسي للسلطة في تعزيز (الإيمان بالشرعية) .
تناول المحور مفهوم (حق مقاومة الطغيان)*وتطور نظرة فلاسفة
الاجتماع له عبر التاريخ كما حدد كيفية تعامل الدولة كفئة محتكرة للسلاح مع
رعاياها وحلات إستخدام القوة في فرض القانون.
تناول
المحور مفهوم (العنف الصامت)وإستراتيجياته ومظاهره وهو شكل من أشكال العنف الذي لا
تكون فيه إراقة دماء ويحدث بتمييز السلطة لفئة من الناس ومنحها ميزات اقتصادية
وتفضيلها عن باقي الناس .
المحور الثالث: الطبيعة القانونية لأنظمة لجان الحقيقة في
التجارب الإفريقية المغرب وتونس مثالا :
تناول المحور الأطر القانونية للجان الحقيقة وآلية تشكيلها
وصلاحياتها وطرق عملها مسترشدا وعارضا لتجربتي المغرب في هيئة الإنصاف والمصالحة
وتونس من خلال هيئة الكرامة والحقيقة ومستصحبا للتجربة الغانية للمصالحة.
تعرض المحور إلى أوجه الشبه والإختلاف بين التجارب الثلاث من
حيث دوافع نشوئها ومدة عملها وعوامل نجاح بعضها وفشل البعض الآخر .
المحور الرابع :
إشكاليات التعويضات في تجارب العدالة الانتقالية في إفريقيا :
تحدث المحور عن مفهوم جبر الضرر وهو يعني تمكين الضحايا من
الحصول على أكبر قدر من الإنصاف تشمل الاسترداد والتعويض والترضية والضمانات بعدم
التعرض للانتهاك مرة أخرى، تضمن المحور ضوابط التعويضات المالية وأشكال التعويضات
اتلفردية والجماعية وضوابطها .
عرض المحور تجارب بعض الدول في مجال جبر الضرر كدولة
(تشيلي)التي استثمرت حوالي3.2 مليار دولار في تعويض ضحايا الإختفاء القسري
والتعذيب والسجن السياسي .كما تناول تجربة دولة ك(الأرجنتين) التي استثمرت حوالي
1.2مليون دولار في تعويض ضحايا الانتهاكات .
تناول المحور بالنقد والتحليل تجربة هيئة الحقيقة والإنصاف
المغربية في مجال جبر الضرر الفردي والجماعي .
المحور الخامس: إحياء وحفظ الذاكرة بين النسيان والمصالحة
المجتمعية
تعرض المحور لتجربة (جلسات الاستماع العمومية) للضحايا سواء
أكانت علنية أو سرية فردية أو جماعية، وهي أداة مهمة لرد كرامة الإنسان والاعتراف
بالانتهاكات التي تعرض له وهي شكل من أشكال الشفاء الجماعي
(social healing) وتدل على العزم على طي صفحة الماضي .
ناقش المحور أنواع جلسات الاستماع من جهة تقسيمها إلى :
1. جلسات
استماع فردية( Individual Witness Hearings)
2. جسات
استماع خاصة بالحدث(Event-specific hearings)
3. جلسات
مؤسساتيه(Institutional Hearings)
4. جلسات
موضوعية(Institutional Hearings)
تناول المحور أيضا آليات واجراءات إنعقاد الجلسات وضوابطها
وكيفية حماية الشهود، كما تعرض لتجربة المغرب وجنوب إفريقيا وتونس وسيراليون في
تنظيم جلسات الاستماع .
تناول المحور تجربة رواندا والكنغو في المصالحة الوطنية وتسوية
جرائم الماضي بما يشمل القصاص العنيف والنسيان وسياسة الحق والعدل .
المحور السادس : ظاهرة
الإفلات من العقاب في تجارب العدالة الانتقالية في إفريقيا
تناول المحور ظاهرة الإفلات من العقاب في ضوء تجارب (المغرب
وتونس وسيراليون وجنوب إفريقيا).حيث عرفت ظاهرة الإفلات من العقاب بعدم التمكن من
مساءلة مرتكبي الجرائم قولا أو فعلا .
تناول المحور أنواع الإفلات من العقاب وهي : الإفلات الفعلي بفساد مؤسسات القضاء أو وجود
الحرب والإفلات القانوني أو المنظم ويكون بإستغلال الجاني للثغرات القانونية
وإتفاقيات عدم تسليم المتهمين بين الدول.
ختاما إن نجاح ثورة ديسمبر المجيدة في تحقيق أهدافها لا يتحقق
إلا باعتماد ودراسة تجارب الدول الخارجة من الصراع الطويل في مجال العدالة
الانتقالية وضرورة تحمل مسار العدالة الطويل من أجل معالجة آثار الماضي وبناء
سودان يحقق شعارات الثورة في الحرية والسلام والعدالة.