من الجُمل المِفتاحيّة في فهم مشروع عالم الاجتماع البارز، ماكس فايبر، هي ما وصفه به عالم الاجتماع المُعاصر أنطونيّ غيدنز حين قال: ” إن فايبر قد أمضي جُل حياته في حوار مع شبح كارل ماركس”. وقد كان أنطونيّ محقاً في وصفه فقد اشتبك ماكس فايبر مع أربعة حقول مركزيّة في الفكر الماركسيّ هي: مفهوم الماديّة التاريخيّة، والدوافع البشريّة، وطبيعة السلطة، ومفهوم الطبقة؛ وانتقد التصور الماركسيّ في هذه الحقول الأربعة وحاول تقديم أطروحات مُغايرة وأكثر شمولاً ودقة في بعض الأحيان عن تلك التي قالها ماركس أو الجيل الأول من الماركسيين. في هذا المقال سنضرب مثالاً للنقد الذي قدمه فايبر لماركس، وتحديداً فيما يخص الدين وعلاقته بالاقتصاد.
كان كارل ماركس يرى بأن الدين هو مجرد منتج ثانويّ من الصراع الطبقيّ والواقع الاقتصاديّ، وأن الطبقات الرأسماليّة التي تتحكم في هذا الواقع الاقتصاديّ تستخدم الدين وتتاجر به بغرض تخدير الشعوب والاستمرار في استغلالها، وهذا ما يظهر جلياً في مقولة ماركس المشهورة: “الدين أفيون الشعوب”، وفي مقولته الأخرى: “إن أساس النقد غير الديني هو: إن الإنسان يصنع الدين، وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان”. في المقابل، فإن من أشهر الدراسات التي انتقدت هذا التصور الماركسيّ وناقشت أثر المكون المجتمعيّ والدينيّ في البنيّة الاقتصاديّة هي الدراسة المشهورة لماكس فايبر حول “الأخلاق البروتستانتيّة وروح الرأسماليّة”، والتي بدأها فايبر بالملاحظة التالية: ” “إذا عدنا إلى الاحصائيات المهنيّة في بلد تتعايش فيه طوائف دينيّة متعددة، نلحظ بصورة متواترة واقعاً….يتلخص هذا الواقع في أن رجال الأعمال، وممثليّ الشرائح العليا، والملاك التقنيون والتجاريون ذوو الثقافة الرفيعة في المؤسسات الحديثة، هم، بأغلبية كبيرة من الطائفة البروتستانتيّة”. حاجج فايبر في تلك الدراسة بأن القيم والأخلاق البروتستانتيّة كان لها الدور الحاسم في تكوين ظروف اجتماعيّة ونفسيّة معينة جعلت من نشأة وتطور الرأسماليّة أمراً ممكناً في المجتمعات الغربيّة. تحديداً، فقد قام فايبر بتسليط الضوء على الصلة التكامليّة والعلاقة السببيّة بين أخلاق العمل التقشفيّة وعقيدة القدر في البروتستانتيّة من جهة، وبين العقلانيّة الاقتصاديّة والروح الفردانيّة في الرأسماليّة.
ابتداءً فإن البروتستانتيّة، على خلاف الكاثوليكيّة، لا تعترف أصلاً بما يعرف بصكوك الغفران أو بأنك تستطيع أن تمحو سيئاتك بمجرد أن تعترف بها للقسيس وتؤمن بأن الرب هو الوحيد القادر على غفران سيئات العبد وليس أحد من الخلق. ولكن، وبحسب العقيدة البروتستانتيّة، لأننا لا يمكن أن نقابل الرب ونعرف ما إذا كان راضياً عنا أم لا إلا يوم القيامة، لذلك يعيش البروتستانتيّ حالة من القلق المستمر من مصيره والإحساس الدائم بالخطيئة الأولى. وكعلاج لهذا القلق يعتقد البروتستانتيون بأن الانخراط في العمل الشاق والجاد بكل أنواعه الدنيويّة (وليس فقط في العبادة والذكر) هو نشاط يحبه الرب وأن الاجتهاد والنجاح في العمل الدنيويّ يحمل إشارات الفلاح في الآخرة ومرضاة الرب، كما أنه نشاط أخلاقي ضروري لأنه ينطوي على فضيلة تأخير الإشباع والمتعة، وأخيراً فهو نشاط (خصوصاً عندما يكون متعلقاً بأمر دنيويّ) يساعد على إصلاح المجتمع ككل ولا ينعزل عنه. عقيدة العمل البروتستانتيّة المذكورة سابقاً، شجعت على تراكم الثروة في شكل استثمار أو ادخار بدلاً من الاستهلاك، وهو الأمر الذي شجع من ظهور الحسابات العقلانيّة للادخار والاستثمار فمقدار مدخراتك واستثماراتك، بحسب هذه العقيدة، يحمل إشارة إلى درجة فلاحك وقبولك عند الله، وهو ما أطلق عليه فايبر روح الرأسماليّة ويعنى بذلك أن الجشع والرغبة العارمة لجمع المُدخرات وتراكم الثروة تحولت إلى فضيلة أخلاقيّة عند البروتستانت. وهنالك أمر آخر مرتبط بعقيدة القضاء والقدر، وذلك أن الأقدار في البروتستانتيّة تعتبر مسألة فردية أو قيمة فردانيّة وهي فكرة أن الرب سيحاسب كل فرد منا على حده، وكل فرد منا مسؤول عن نفسه فقط أمام الله. هذا المكون الانعزاليّ قام بتقويّة قيم الخلاص الفرديّ والأخلاق الفردانيّة وهَمّش من دور التوافق والتآلف مع قيم المجموعة/المجتمع على المستوى العقديّ.
لم يكن هدف فايبر من تلك الدراسة الادعاء بأن البروتستانتيّة هي السبب الهيكليّ الوحيد في ظهور الرأسماليّة، بل كان هدفه توضيح حدود تأثير الفكر والدين في الواقع الاقتصاديّ والرد على التصور الماركسيّ الذي يرى بأن الفكر والدين ما هو إلا انعكاس للواقع الاقتصاديّ، يقول فايبر موضحاً هذه النقطة: “ليست المسألة مسألة الدفاع عن مقولة غير منطقيّة وعقديّة تدعي أن (روح الرأسماليّة) لا يمكن أن تكون سوى نتيجة لبعض تأثيرات الإصلاح الدينيّ، وتذهب إلى حد التأكيد أن الرأسماليّة كنظام اقتصاديّ هي من فعل هذا الإصلاح….يكمن همنا الوحيد، على العكس من ذلك تماماً، في تعيين حدود التأثيرات الدينيّة ومساهمتها في تكوين العقليّة الرأسماليّة تكويناً نوعياً، وفي نشرها كمياً عبر العالم، ويكمن أيضاً، بالإضافة إلى ذلك، في تعيين المظاهر الملموسة للحضارة الرأسماليّة والتي نجمت عن التأثيرات الدينيّة، وإظهار هذا التشابك الهائل في التأثيرات المتبادلة بين الأسس الماديّة وأشكال التنظيم الاجتماعيّ والسياسيّ، والمضمون الروحيّ لعصور الإصلاح”.
تعرضت دراسة ماكس فايبر لكثير من الانتقادات والاستدراكات كأي دراسة كبرى في العلوم الاجتماعيّة، فقد انتقد بعض الباحثين قائلين انطلاق فايبر من وجود تزامن بين البروتستانتيّة وبين الرأسماليّة ثم الافتراض من هذا التزامن علاقة سببيّة نتجت فيها الرأسماليّة من البروتستانتيّة، بمعنى أنهم تسألوا عن سبب قول فايبر بأن البروتستانتيّة هي التي انتجت الرأسماليّة ولم يقل بأن الرأسماليّة هي التي كانت سبباً في ظهور الأخلاق البروتستانتيّة؟ خصوصاً أن بعض الباحثين مثل ميشيل نوفاك حاجج بأن نفس السلوكيات والعقائد البروتستانتيّة تتواجد بصورة كبيرة في الكاثوليكيّة. كما اتفق عدد من الباحثين مع أطروحة فايبر الرئيسيّة (أي الادعاء بأن البروتستانتيّة كانت من عوامل نشأة الرأسماليّة) وقاموا بمعالجة الاشكال الذي طرح حول الانتقال من التزامن للسببيّة، لكنهم استدركوا عليه في آلية تأثير البروتستانتيّة. فمثلاً حاجج فليب قروسكيّ بأن البروتستانتيّة ساهمت في تكوين البنيّة البيروقراطيّة للدولة الرأسماليّة، بينما حاجج ساشى بيكر ولودجر ووسمان في دراسة مثيرة بأن آلية تأثير البروتستانتيّة في تشكيل الرأسماليّة تم عن طريق رأس المال البشريّ بمعنى أن البروتستانتيّة (بسبب تأكيدها على عدم وجود الوساطة بين الرب وبين العباد ومحاربها للتأويل البابوبيّ للإنجيل ودعوتها لجميع المسيحين بالقراءة المباشرة للإنجيل) حفزت المسيحين على تعلم القراءة الأمر الذي أثر هيكلياً في بنيّة الاقتصاد الأوربيّ وساهم في تشكيل الرأسماليّة.
بغض النظر عن كل ذلك، فإن القيمة المركزيّة الإضافيّة لدراسة فايبر كما يقول بروفيسور علم الاجتماع بجامعة هارفرد فرانك دوبين: “ليست في مدى دقة حجته أو ادعاءه، وإنما في رؤيته التي تبحث عن التشابك والعلاقة المُتبادلة بين مكونات المجتمع من دين وثقافة وتقاليد من جهة، وبين النظام والسلوك الاقتصاديّ من جهة”، تلك الرؤية التي ساهمت في إلهام كثير من الباحثين لكتابة مئات، وربما ألاف، الدراسات في حقول السيسيولوجيا الاقتصاديّة، والاقتصاد السياسيّ والدراسات السياسيّة المُقارنة، وأنا هنا لا اتحدث عن الدراسات ذات المركزيّة الثقافيّة في التأويل فقط، وإنما تلك الدراسات المُتزايدة التي تنتهج منهجيّة تعدديّة (تجمع بين الثقافة، والمؤسسات، والصراع الماديّ) في بناء نماذجها التفسيريّة.
كثيرٌ من القراء قد لا يختلفون مع الأفكار الرئيسيّة لهذا المقال، بل قد يحتفى بعضهم بهذا المقال، ولكن عندما يتبع البعض نفس المنطق الذي اتبعه فايبر ويحاولوا المُحاججة بأننا يمكن أن نستلهم من تعاليم الدين الإسلاميّ نظاماً اقتصادياً أو مبادرات وسياسات ماليّة لتحسين الوضع الاقتصاديّ والنظام المصرفيّ، ينتفض كثير من أولئك القراء ويكرروا أقوالاً مبتذلة من أمثلة “هذا تسيس وتجارة بالدين”، أو “أن الدين شأن فرديّ لا علاقة له بالاقتصاد والسياسة”، وهو ما أعتبره تناقضاً واضحاً. ربما يفعلون ذلك بسبب بعض التجارب التي عاصروها أو قرأوا عنها، وربما يفعلون ذلك لأن زامر الحيّ لا يطرب، وربما يفعلون ذلك لفقدانهم المقدرة على “الخيال”، ومن بين هذه الثلاث سنناقش مشكلة فقر الخيال في مقالنا القادم إن شاء الله!