في خريف عام 2011 و أنا طالب في عامي الدراسي الأول بجامعة الخرطوم، لا أزال أذكر جيداً تلك الفترة التي كانت تصادف انتخابات اتحاد طلاب جامعة الخرطوم وهو جسم نقابي خدمي تتنافس التيارات السياسة بالجامعة على الفوز بمقاعده الأربعين، و نحن في عامنا الأول بالجامعة نتحسس خطانا بين زخم الخطابات العديدة الداعية إلى اتجاهاتها المتباينة، فهناك التيار الإسلامي يقيم ندواته و برامجه الانتخابية، وهنا التحالف الديمقراطي تضج شوارع الجامعة بملصقاته و مخاطباته السياسية، وبين هذا و ذاك نجد تيار الوحدة الطلابية وغيرهم العديد من الاتجاهات و الأجسام التي تطرح قوائمها الانتخابية ترويجاً لكسب أصوات الطلاب، يمكنني وصف تلك الفترة – خصوصاً إذا ما قارنتها بسنواتي التي تلتها في الجامعة – بالمهرجان الطلابي الذي ما شهدنا بعده آخر، لم نكن ندري أن ذاك العام سيكون وداعاً لأعوام النشاط السياسي بالجامعة و تمهيداً لسنين عجاف من الركود والكساد السياسي فيها، حيث لم يكتمل نصاب التصويت في ذاك العام – أي أن عدد الطلاب المصوتين في الانتخابات لم يبلغ 50% من العدد الكلي لطلاب الجامعة، و في هذه الحالة تمسك إداراة الجامعة أمر الاتحاد ولا يكون من نصيب أي تيار سياسي – سبق ذلك أيضاً سقوط للنصاب في العام السابق لذاك العام وهو 2010 في ظاهرة جديدة على سوح الجامعة، فلم تقم انتخابات بعد ذلك و كان آخر اتحاد طلابي شهدته الجامعة هو اتحاد 2009، وعموما يبدو أنها- أعني ظاهرة سقوط النصاب وهجر التصويت- كانت قمة جبل الجليد الذي يخبيء تحته تغيرات بنيوية تعمل بعمق واستمرار، فقد رأينا نتائجها في السنين التالية حتى تخرجنا في عام 2016 حيث تحولت فكرة ” الانتماء السياسي” إلى شبه مسبَّة ووصمة يفر الطلاب عنها، و كأن من علامات الشاب الصالح أن يبتعد عن السياسة في مشهد حركي راكد و كاسد حتى لحظة كتابة هذه السطور، فما الذي حدث ؟
مجتمع الشباب العربي و السوداني بالأرقام :
يمكننا وصف المجتمع العربي عموماً والمجتمع السوداني على وجه الخصوص بأنها مجتمعات فتيَّة/شابة يشكل الشباب فيها غالب تركيبتها السكانية، فبالنسبة للمنطقة ككل يشكل الشباب 1.8 مليار نسمة و هو أكبر عدد بين كل الفئات (1)، وبالنسبة للسودان الذي يقدر تعداده السكاني بعد انفصال الجنوب أكثر من 30 مليون نسمة(2)، يمثل الشباب من هذا العدد حوالي 54% (3)، فإذا قارنا هذه النسب مع نسبة انخراطهم في السياسة – بالتعريف التقليدي للعمل السياسي عبر الاحزاب، البرلمانات..الخ – نجد نتائج محبطة، حيث أن المنطقة العربية تعاني من تراجع مستمر في عمل الشباب السياسي حسب الباروميتر العربي من (2006 إلى 2016) (4)، يظهر هذا الزهد السياسي أيضاً في الحالة السودانية التي هي موضوع هذا المقال، ففي دراسة تمت عام 2006 عن “مشاركة الشباب في العمل السياسي” ركزت على ولاية الخرطوم كانت العينة من الفئة العمرية (15 -45 ) وكانت النتائج كلها تشير إلى تدني الاهتمام بالعمل السياسي أو الانخراط فيه(5) ، واعتقد أن الأمر قد ازداد سوءا بعد هذه السنوات وصولاً إلى هذه اللحظة الحالية.
الزهد في العمل السياسي كظاهرة مركبة :
تبدو هذه الظاهرة كعادة غيرها من الظواهر الاجتماعية التي تتسم بنيتها بالتعقيد والتركيب ولا يمكن اختزالها في سبب واحد مباشر، أو طريق حتمي تسير فيه سيرورة التغيير، و للأسف تنزع معظم المقالات والأبحاث التي تناولت هذا الموضوع نحو : إما منزع كمي يركز على الأرقام و يستخرج استخلاصات كمية مباشرة فقيرة وخالية من القدرة التفسيرية والمحتوى النقدي، أو منزع اختزالي يعزو الظاهرة ككل إلى الاستبداد السياسي فقط و كأن الطريق نحو الديمقراطية إذا أشرع يديه للشباب سيسيرون فيه بكل حماس و همة، و الواقع أن هذه المنازع الاختزالية تغفل بوضوح أسباب ذات مدى أوسع وأكثر تركيباً تعمل على تغيير بنيوي عميق لمفهوم ” السياسي” و لمفهوم ” الفاعل” و غيرها مما سنحاول تسليط الضوء عليه في هذه المساحة المحدودة.
بين الزهد السياسي وليد الأزمات و الزهد السياسي وليد التغيرات:
يخبرنا التاريخ والواقع أن ثمة نوعان من الزهد السياسي، أحدهما ملحوظ و مرئي و يحدث في فترة قصيرة نسبياً و يتكرر تاريخياً، و الآخر – وهو ما نحن بصدده هنا- خفي و دقيق و يحدث على مدى زمني أطول بهدوء وبطء نتيجة تغيرات عميقة في وعي المجتمع، فالأول هو الزهد السياسي الذي يمكن اعتباره وليد الأزمات و يمكن رصد خيوطه في أحد حالاته في أزمة المثقفين العرب في الثمانينات والتسعينات حيث سماه الدكتور عزمي بشارة ” نكوص سياسي” و “استقالة عن العمل السياسي” بالنسبة لـ “خريجي أزمة اليسار والحركات القومية التي تجلت على أشدها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي”(6)، و كذلك من أمثلة الزهد السياسي الناتج عن الأزمات ما أصاب الطبقة الناشطة من المتعلمين والمثقفين السودانيين بعد قمع وفشل ثورة اللواء الأبيض عام 1924 وانتشار الطبقة الناشطة في أنشطة اجتماعية بديلة غالبها ثقافية/أدبية مبتعدة عن السياسة بالمعنى الحركي(7) وأيضا أزمة جيل الربيع العربي الحالي بعد خيبة ثورات المنطقة الأمر الذي قاد غالبية الشباب الحركي إلى حالة من العدمية السياسية وانسداد الأفق(8).
بتدقيق النظر في حالتنا السودانية بلحاظ التحليل، نجد أن حالة الانسحاب من الفضاء السياسي مؤخراً هي من قبيل النوع الثاني الذي تمضي سيرورته على نار هادئة، حيث يمكننا رصد عدة عوامل ساهمت على مر السنوات في الوصول إلى ما عليه الحال الآن من هجر و هجرة، هجر للعمل السياسي و هجرة كثيفة نحو العمل الطوعي/الاجتماعي، فما هي هذه العوامل؟، في الحقيقة يمكن تسميتها عناصر نظرية أكثر من كونها عوامل، فعلى ضوء هذه العناصر تتولد قابلية غزيرة لتفسير العديد من الظواهر المرتبطة بهذا الحقل، ويمكن تلخيص هذه العناصر النظرية في ” وسائل التواصل الاجتماعي، الفضاء العمومي، الاستبداد السياسي” و يعمل في خلفية هذه العناصر مكون نظري مهم يشكل كثيراً من مضامين الوعي للجيل الحالي وهو عنصر ” الحداثة” ، الأمر الذي يشكل لوحة نظرية على قدر من التركيب والتعقيد تعمل جميعها في ذات الوقت مشكلة بعضها البعض.
ما بعد الاستبداد السياسي .. الحداثة، وسائل التواصل الاجتماعي، الفضاء العمومي:
شكل مطلع العقد الثاني من الألفية الثانية في السودان بداية بروز جيل نشأ في كنف الاستبداد السياسي في ظل نظام مستبد وأحزاب سياسية متكلسة منفصلة عن واقع الناس بفجوة كبيرة نسبياً، سرعان ما زادت هذه الهوة بعد دخول “وسائل التواصل الاجتماعي” مشكِّلة بنية مجتمعية جديدة بمفهوم غيدنز(9)، قبل توغل دور هذه الوسائط، حدث ما يمكن أن نسميه بتوسع المجال العمومي بمفهوم هابرماس(10) حيث برز الانسحاب من المجال السياسي في شكل مجموعات و صالونات ثقافية، وجمعيات تتبنى رؤى التغيير عبر وسائل حداثية مستندة للعلم و نظريات الإدارة الحديثة وغيرها، فكانت باكورتها منظومات مثل “شباب النهضة”، ثم “صناع الحياة”، و “شباب الوعي الاستراتيجي”، و مجموعات قراءة، وبرزت قضية الثقافة والقراءة كاتجاه عام ما لبث أن لحق به اتجاه” منظمات العمل الطوعي” التي يمكن وصفها بالانفجار الطوعي، ففي العشر سنوات الأخيرة ظهر عدد مهول من منظمات العمل الطوعي في واقعنا السوداني التي شكلت محاضن حركية بديلة للأحزاب السياسية التقليدية مما وسع الهوة بين هذه الأحزاب و بين الشباب، وقد شكلت هذه المحاضن بدورها رؤى الشباب نحو التغيير فغابت فكرة العمل السياسي بمعناه الكلاسيكي.
و تغيرت أولويات الشباب المهموم بقضية التغيير، فصارت إجابة سؤال”التغيير” من أدنى لأعلى – المجتمع إلى السلطة السياسية – بدلا من أعلى لأدنى – من السلطة السياسية إلى المجتمع-، وكل هذه التغيرات من توسع للفضاء العمومي وصناعة واقع افتراضي موازي خاص بالشباب وقضاياهم واهتماماتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كل هذه التغيرات ساهم فيها الاستبداد السياسي و انسداد أفُقه أمام الشباب فصنع منافذه البديلة و تشكل وعيه بناء عليه.
وعلى صعيد موازي تعمل ” الحداثة” كمنظور كوني مخترق للمجتمعات عبر العولمة على تذرير الأفراد، أي تكوين الفرد الذري المنغلق على ذاته المهتم بسؤال الخلاص الشخصي، أو المنسحب من فضاءات العمل على الواقع إلى مجرد التعبير السياسي عبر الوسائط، ويمكن ملاحظة ذلك بجلاء في إحدى قراءات الباروميتر العربي(11)، فوجود الحداثة كأفق حياة للأفراد في خلفية المشهد الذي تعمل عليه بقية العوامل -وسائل التواصل، الاستبداد السياسي- تنتج جميعها واقعاً مختلفاً و مفهوماً جديداً للسياسي مختلف عن المعنى المتعارف عليه.
أين نجد ظاهرة الزهد السياسي في الحراك السوداني الأخير 19 ديسمبر؟
ظاهرة الزهد في “السياسي” لا تفتأ تطل برأسها عبر أشكال عدة، آخرها في الحراك المستمر حالياً في الشارع السوداني لإسقاط ما تبقى من النظام بعد النجاح في إسقاط البشير، وهو حراك قوامه الشباب بنسبة كبيرة ومتمركز بدرجة معتبرة حول كيان ” تجمع المهنيين” و هو جسم نقابي لا سياسي (12)، كيف يمكن أن نقرأ التمركز حول هذا الكيان بالذات؟ ببساطة يمكننا القول أن الشباب السوداني العادي قد فقد ثقته في المنظومات السياسية المعتادة الأمر الذي يمكن أن نراه في العديد من الأصوات الذامة لهذه الأحزاب و الناقمة عليها من مجموعات مختلفة من الشباب عبر وسائل التواصل، و تجمع المهنيين لا يوجد ثقل معتبر له على الأرض، ولكنه استطاع عبر نافذة تواصل على الفيسبوك تنسيق حراك ديسمبر الحالي حيث خدمته في ذلك ظروف الزهد الشبابي في المجتمع السياسي السوداني أكثر من كونه جسماً معروفاً له قاعدة وبرامج و شخصيات معروفة، فضلاً عن الظروف الأخرى التي لا حاجة لذكرها هنا من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت الناس للخروج للشارع ابتداءً، فالشاهد أن كيان ” تجمع المهنيين” اللا سياسي قد استفاد – في تقديري برمية من غير رامي- من هذا الحنق العام ضد الأحزاب ومن الخروج العفوي للناس بسبب الضائقة الاقتصادية، وغيرها فالتحق بالحراك و قام بتنسيقه، يمكن كذلك الانتباه إلى عامل آخر يمكننا اعتباره عامل ثانوي رمزي ساعد على التعبئة خلف التجمع أكثر من كونه سبب رئيسي وهو الذاكرة التاريخية لدور المهنيين والنقابات العمالية في التاريخ الثوري السياسي السوداني كإضرابات العمال في الأربعينيات وجبهة الهيئات في ثورة اكتوبر(13).
شكل الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعية وعبر مجموعاتهم الاجتماعية والثقافية مسرحاً سياسياً جديداً و فضاءً مغايراً للفعل والتعبير السياسي، فهل سنشهد أفول “الحزب السياسي” كمؤسسة وحيدة للفعل؟ اعتقد أنه من المبكر قول ذلك، فحالياً يشهد الواقع الشبابي انتباهاً لأهمية التنظيم السياسي بعد سنوات عديدة مما يمكن أن نسميه بـ”لا مبالاة سياسية”، فهل سيستعيد الفضاء السياسي سابق عهده ويعود الحزب إلى صدارة المشهد ؟ هذا ما ستنبئنا به الأيام.
المراجع:
(1) مدونة رصيف:
https://raseef22.com/…/159184-%D9%81%D9%8A-%D9%8A%D9%88%D9%…
(2)الموسوعة السودانية(سودابيديا)، الصفحة الرسمية على الانترنت.
(3)المصدر السابق.
(4) المشاركة السياسية للشباب و صنع القرار في الدول العربية، مقال، مدونة
https://agora-parl.org/ar/interact/bl
(5) مشاركة الشباب في العمل السياسي، دراسة بحثية، مركز دراسات المجتمع(مدا)، السودان، الخرطوم.
(6) عزمي بشارة، المجتمع المدني-دراسة نقدية، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات،الطبعة الثامنة، بيروت أبريل 2015 .
(7) محمد سعيد القدال، تاريخ السودان الحديث 1820-1955 م، الطبعة الثالثة، دار جامعة الخرطوم للطباعة و النشر، 2018.
(8)زينب البقري، التكوينات البديلة لشباب الإسلاميين بمصر-مدرسة شيخ العمود نموذجا، ورقة بحثية، ضمن كتاب” ما السياسي في الإسلام” .
(9)انتوني غيدنز، علم الاجتماع، المنظمة العربية للترجمة.
(10)خالد مخشان، الفضاء العمومي عند هابرماس، مقال، مدونة الحوار المتمدن على الانترنت.
(11)مصدر سابق(4)
(12)تجمع المهنيين السودانيين، الصفحة الرسمية على الفيسبوك، منشورات التعريف.
(13)روبرت كولينز، تاريخ السودان الحديث، المنظمة العربية للترجمة.